أنحن حقّا في زمن “اللاّحب”؟ 

2٬063

نافذة في سوسيولوجيا الحب والعواطف

إنّ الناظر لحال الروابط الإنسانية اليوم والعاطفية تحديدا، يلمس جليّا مدى القصر الذي آلت إليه في زمن ما سمّي بـ “الرأسمالية الاستهلاكية” التي حولت معظمنا إلى “ماكينات” باردة وقضت على الحب باسم “الحرية الجنسية” و “الحق بالمتعة”.  كرّست فينا ثقافة” السيولة” سيولة المشاعر والطقوس الاجتماعية التي كانت تقام للتودد بين الجنسين وصولا إلى المقابلات العائلية وتلك الشفافية العاطفية التي يعقبها تتويج لمؤسّسة زواجية جديدة.

الكثير والكثير ممّا اندثر  في صندوق “الحداثة” المظلم، فلم يعد “الحب” سوى كلمة مستهجنة في عصر مجتمعنا الاستهلاكي هذا، حتّى العلاقات الوجدانية فقدت ديمومتها عفويتها ومثّلت كسلع رخيصة لها أسواق وزبائن.

الفردانية العاطفية وعلاقات الجيب العلوي

لقد غدا الحب منتوجا “عرضيا” جاهزا نستهلكه عند الحاجة والرغبة إليه غير آبهين لكنهه الرّمزي، وإن لم يرقنا مستوى وجودة اللذّة المتوخاة من هذا المنتوج، نباشر في إلغائه بسيولة ضمانا لحقنا كمستهلكين. وفي مفترق طرق كلّ من الرأسمالية والجنسانية والعلاقات الجندرية والتكنولوجيا، نجد أن “اللاّحب” هو الشكل الجديد الذي طبع وسيطبع هذه العلاقات “البراغماتية المؤقتة” وقد قضى على الحب بمفهومه “ما قبل الحداثي” أيضا وهو الأمر الذي وصفته عالمة الاجتماع الفرنسية والمغربية الأصل (إيفا إيلوز) بـ “الفوضى المعاصرة” مشيرة -في كتابها الموسوم بعنوان “نهاية الحب: سوسيولوجيا العلاقات السلبية” إلى التبعات السلبية التي تنتج عن “تسليع العاطفة” ممّا يفضي إلى هيمنة العلاقات العرضية وبالتالي غياب الحب ومن ثمّ شيوع الانفصال العاطفي والعديد من الظواهر الاجتماعية الخطيرة. كالطلاق، سيادة الشعور العام بالوحدة والعزلة، العزوف عن الزّواج والعزوبية الدّائمة للرّجال والنّساء على السّواء.

وعن” علاقات الجيب العلوي” ، فإنّ الكاتبة الإنجليزية  “كاثرين غارفي” تشرحها في كتاب “الحبّ السائل” لمؤلفّه (زيمونت باومان) بكونها تلك ” العلاقات التي يمكن للمرء أن يحتفظ بها في جيبه ويخرجها منه بسهولة متى أراد”.   وهي علاقات تصفها “كايت” بالعذبة و العابرة، حيث تكمن عذوبتها تحديدا-حسب الكاتبة- في ذلك الوعي المريح بأنّنا لسنا مضطرّين  إلى بذل الجهد وفعل كل مافي وسعنا للحفاظ على هذه العلاقات وقتا أطول. بل إنّنا لسنا مضطرين إلى فعل أيّ شيء للاستمتاع بها. فعلاقات الجيب العلوي –عند كايت- هي  التجسيد الحقيقي للاستهلاك اللّحظي والتّخلّص الفوري  من” النفايات”.

ولكي تكتسب هذه العلاقات سماتها العجيبة تلك (عذبة وعابرة)، تضع “كاثرين غارفي” شرطين أساسين: أوّلهما ألاّ ينساق المرء وراء مشاعره ولا ينجرف مع التيار. فلا بد -حسب كاثرين غارفي- من دخول العلاقة بوعي كامل ويقظة تامّة. ذلك أنّ لا شيء اسمه الحب من النظرة الأولى، ولا وقوع في الحب، ولا تدفّق مفاجئ للمشاعر يتركك تتنهّد وتتأوّه، ولا وجود للمشاعر التي نسميها “الحب”، ولا المشاعر التي نصفها وصفا واعيا بأنّها “رغبة”. فكلّما قلّت استثماراتك في العلاقة، كلّما قلّ شعورك بعدم الأمان إذا تعرّضت إلى تقلبّات مشاعرك في المستقبل. وفي شرطها الثاني، تؤكد “كايت” على ضرورة استحضار المصلحة من مثل هذه العلاقات وأن لا يفلتها المرء من عقله الثاقب. حتّى لا تطوّر منطقها الخاص بوجه عام ولا يدعها تكتسب حقوقا دائمة بوجه خاص.

كاثرين غارفي ترى أن “الجيب العلوي” هو المكان الطبيعي لهذه العلاقات في زمن ما سمي بالحداثة والعولمة. وهي تدعو دائما إلى مراقبة أبسط التغيّرات التي تطرأ على هذه العلاقات فيما تسمّيه بـ “التيّارات العاطفية التحتية” فالمشاعر العاطفية –من وجهة نظر كاثرين جارفي– تتحوّل إلى تيارات تحتية ما أن تسقط من الحسابات.

الحداثة العاطفية والاختيار السلبي…الاغتراب

في كتابه “الحداثة والهوية الذاتية” يكشف السوسيولوجي “أنطوني غيدنز” بوضوح تام عن طبيعة الحداثة العاطفية. ينظر “غيدنز” إلى الحميمية بصفتها التعبير الأقصى على حرّية الفرد، وانعتاقه التدريجي من رقبة الدّين والتقليد والزّواج كبنى للبقاء الاقتصادي. وأنّ للأفراد القدرة على بناء استقلاليتهم الذاتية وحميميتهم على حدّ سواء. وقد أيّد “أنطوني غيدنز” الحداثة بأسلوب معياري. وذلك من خلال صياغته لمفهوم “العلاقة النقيّة الخالصة” حيث يفترض أنّ الحميمية تضع القيم الجوهرية للذات الحديثة الليبرالية قيد التنفيذ، الشيء الذي يكسبها القدرة على بدء علاقة معينة أو وضع حدّ لها بموجب عقد ضمني.

إنّ الفرد الذي ينخرط في “العلاقة الخالصة” -عند غيدنز- هو فرد حرّ وواع بحاجاته كما أنّه قادر على التفاوض بخصوصها. فالعلاقة الخالصة توافق -من وجهة نظره- نموذجا ليبراليا للتعاقد الاجتماعي.

وبالعودة إلى كتاب “نهاية الحب: سوسيولوجيا العلاقات السلبية” تؤكد مؤلفته -إيفا إيلوز- أن الحب في صورته الحداثية بات يرى “كعلاقة  تعاقدية” تبرم بحرّية، ويتعهد فيها باحترام مبادئ التزام إيتيقية، تسفر عن نتائج جلية وتتطلب استراتيجيات واستثمارا عاطفيا ووجدانيا بعيد الأمد. لكن هذه العلاقات المعاصرة تختلف عن سابقاتها من العلاقات الموروثة القديمة وعن التجارب العاطفية الممأسسة ما قبل الحداثة، فهي علاقات -وفق إيلوز- منتهية، تتبخر وتنفصم علاوة أنّها تتبع ديناميكية الاختيار الإيجابي والسلبي لشبك الروابط واللاروابط.

فعقب مختلف المعارك الناشدة للحرية والخلاص من وطأة القيود الأخلاقية والدينية وغيرها، في القرنين الأخيرين، أضحت معظم هذه العلاقات عبارة عن اختيارات غير ممأسسة وروابط اجتماعية سلبية، حسب وصف إيلوز. وترجع هذا الأمر إلى فعل الثقافة الاستهلاكية والتكنولوجيا أو “الحداثة الشبكية” كما أسمتها. هذه الأخيرة التي نزعت -في نظر إيلوز- الطابع المؤسّسي على الحريات العاطفية والجنسية. الشيء الذي انعكس سلبا على مضمون وجوهر العقود العاطفية والجنسية، حيث باتت عقودا شبه مؤكدة، مشتبها فيها وفي متناول الجميع ومتنازعا عليها باستمرار. ممّا جعل استعارة العقد غير ملائمة تماما لفهم وإدراك ما تدعوه إيفا إيلوز بالبنية السلبية للعلاقات المعاصرة.

ترى -إيفا- أنّ علاقات الحب هي استثمارات مثل غيرها من الاستثمارات، لكنّها تتساءل عن إمكانية تأدية المرء قسم الولاء للأسهم التي اشتراها لتوّه من السمسار؟ أو أن يقسم بأن يظلّ مخلصا للأبد في السرّاء والضرّاء، وفي الشذّة والرّخاء، ويتعهد “بألاّ يفترقوا حتى الموت”؟ وألاّ تتطلّع أعينهم إلى مكان آخر يغوي بفرص أفضل؟

تأخذنا هذه الأسئلة اليوم، إلى التساؤل الحقيقي والمسؤول حول إمكانية عودة قيمة الأسرة والمجتمع إلى أصولها الأولى، وعن مآل تلك الفطرة السليمة التي نشأ عليها المرء، عن حب حقيقي لا نتسوّل فيه فتاوى دينية ولا نصوصا افتراضية لشرعنته، هل لعواطفنا ومشاعرنا حياة في زمن العولة والحداثة؟

1xbet casino siteleri bahis siteleri