الملاذ الرحيم

بالنظر إلى طبيعتنا البشرية، فنحن دائما نحتاج إلى وسائل نعبر بها عما نريده أو ما نريد للغير أن يعرفه، وتختلف أساليب التعبير من شخص لآخر حسب الوسائل والأدوات المتاحة له والتي تمكنه من الأمر. الرسم هو إحدى هذه الوسائل، وهو يكتسب أهمية خاصة لدى الأطفال كونهم غير قادرين على التعبير عما يخالجهم دائما بالكلام والكتابة، وفي كثير من المرات يستطيع الطفل من خلال رسم بسيط مبعثر الملامح التعبير عن مشاعر أو مخاوف عميقة تسكنه ولا تظهر في تصرفاته بوضوح.

في مرة عندما كنت في الصف الأول من التعليم الإبتدائي طلبت منا المعلمة أن نقوم برسم أي شيء نريده داخل الفصل الدراسي، لم تكن رسمتي حينها خارجة عن المألوف فربما هي نفسها التي كنت أرسمها في الروض، سيارة وبيت وسحب وبعض الأقواس للدلالة على الطيور، بل وربما قد أتفنن بين الفينة والأخرى بوضع علم تتوسطه نجمة فوق البيت أو أن أقوم بوضع النباتات أمام باب البيت.

كنت أرسم البيت بسقف محدب، معتبرا السقف المحدب معيارا ومظهرا من مظاهر جمالية البيوت والتي في الحقيقة غير موجودة في معمار مدينتي، ثم إن السحب التي كنت أضيفها إلى الصورة كانت أشبه بمكونات أساسية لا يمكن الاستغناء عنها لكونها ما تكسر الفراغ الذي يعتلي الورقة، أما بالنسبة للعلم فقد كان حركة معتادة أن أرسمه في قمة بيت أو قمة جبل، لأنني كنت أخال أن الحب سيكون متبادلا بيني و بينه لأنتظره سنين طوال.. إلى الحين الذي استنتجت فيه أن العلم لا ينزل عن القمة وأن القاع حيث نعيش لم يخلق إلا لنا نحن الغالبية الساحقة من المجتمع. لوحتي لم تكن تلك التي من شأنها أن تخلق الاستثناء، فهي لم تخرج عن الملاحظة السطحية للأمور التي تدور حولي، إلا إذا استثنينا العلم الذي كانت تقبع وراءه طموحات وأماني عالية بعلوه، لكنني أتذكر جيدا يومها كيف انفجرت زميلتي “دعاء” باكية داخل الفصل، لنفهم من خلالها أن الأم والأب مطلقين، وأنها تعيش مع أمها وجدتها.

مقالات مرتبطة

كانت رسمة الفتاة غير متقنة ولكننا استطعنا أن نعلم أنها حول أبويها اللذين مثلتهما بشخصين يمسكان أيدي بعضهما البعض. كان من الصعب على المعلمة أن تضبط كمية الحزن التي انفجرت داخل القسم، لأنني بدوري حزنت كثيرا لحال زميلتنا، كنت أعلم مسبقا بحقيقة وجود الطلاق في المجتمع، لأنه كثيرا ما انتهت إلى مسامعي أحاديث عائلية أو من الجيران وحتى التلفاز حول الطلاق والتشتت الأسري، لكنني صدمت بالأمر لكوني لم أخل يوما أن أرى زميلة لي ضحية لهذا النوع من الظواهر الأسرية.

في الحقيقة وعلى غرار الرسم أثبتت الفنون التعبيرية بشتى أنواعها سمعية كانت أو بصرية، نجاعتها في إخراج المكنونات والضغوطات النفسية التي تتصارع بداخل الفرد منا لدرجة أنها اعتبرت مكملات علاجية يتعاطاها البشر، فانتقلت من قيمتها السطحية كترف عقلي ونزهة في رياض الجمال والفن إلى لغة تعبيرية تحمل العديد من المعاني والرموز المتصارعة المشتعلة في صدر كل من لديه حس جمالي، و التي لا يمكن الإفصاح عنها إلا بترجمتها إلى إبداعات دون أي خوف أو رهبة، فالإبداع قلما يخذل صاحبه.

رسمة الفتاة كحال مجموعة من الرسومات كانت تحمل وراءها قصصا كثيرة وأماني عديدة تمنى جل زملائي لو أنها تحققت…ولكن “ما نيل المطالب بالتمني” فالحقيقة قاسية، أحيانا علينا أكثر مما يمكننا تحمله، سواء كنا أطفالا أو كنا راشدين.

وهكذا بالضبط مرت حصة الرسم، بين حالم وملاحظ تعددت الرسوم واختلفت أسرارها ولكنها اتفقت على أن تترجم أحلام وأماني طفولة بريئة، بل ومازلت شخصيا أجد في الإبداع ذاك الملاذ الرحيم وهذه التدوينة خير دليل.

1xbet casino siteleri bahis siteleri