في ركن المقهى الشعبي

في تلك الطاولة القابعة في ركن المقهى الشعبي تعودت أن أجلس، لقد واكبت تلك الطاولة سنين عمري بما تحمله من أفراح وأحزان، لحظات ضعف وأخرى لحظات قوة. على طاولة ركن المقهى جلست أنا وصديق طفولتي مرارا وتكرارا نناقش قضايا السياسة والأمة قبل أن يضيق به هذا الوطن ويتخذ من الهجرة السرية عبر قوارب الموت ملاذا حيث كان مصيره الغرق كالعديد ممن هم مثله، تاركا وراءه فجوة عميقة بقلوب من أحبوه وعاشروا طيبته وعفويته.

على تلك الطاولة سكبت حبر أقلامي على العديد من الأوراق أروي فيها مذكراتي التي تشبه صاحبها، حزينة وسعيدة في نفس الوقت. لقد شهدت تلك الطاولة أيضا على يوم تخرجي، حيث اجتمعت حولها ومجموعة من الأصدقاء كنت قد وعدتهم بأن نجتمع ونحتفل يوم أتخرج من الجامعة، تلك الطاولة ذاقت طعم دموعي التي انهمرت عليها يوم قررت حبيبتي القبول برجل تقدم لخطبتها، لأنه يملك مسبقا مالا وعملا أغرى أبويها.

بجانب تلك الطاولة مجموعة من الطاولات الأخرى، كل واحدة منها أصبحت أعلم من يجلس عليها، ففي الطاولة المجانبة لي مباشرة يجلس “سي قادر” ذو الخمسين عاما يرتوي من كؤوس الخمر الواحدة تلو الأخرى، يظل يرتوي حتى يثمل ثم يظل يسرد قصة حياته على نفسه وكأنه يسردها لشخص أول مرة، تكرار قيامه بالأمر جعلني أعلم ما في جعبته من هموم وقصص درامية لم يستحملها إلا شخص قوي جدا، تزوج ثم رزق بفتاة ثم قاموا بزجه في السجن عدوانا لأنه لم يرضخ لمدير عمله الذي كان يقوم بتجاوزات خارقة للقانون، وبعد خروجه من السجن وجد زوجته قد رفعت دعوى طلاق وأن ابنته رفضت أن تعترف به كأب لها.

في الطاولة المقابلة لي مباشرة كانت تجلس “الشوافة حسناء”، هي ليست بشوافة في الأصل لكنها تحبذ أن تجلس على تلك الطاولة وتنتظر من يجلس معها لترى له المستقبل مقابل دريهمات معدودة، لربما كانت تسرفها كلها فقط في شراء علبة السجائر التي لا تفارق طاولتها، الزبائن الذين كانوا يرتادون تلك الطاولة كانوا يعلمون بأن حسناء ليست بشوافة ولا منجمة في الحقيقة، لكنهم كانوا يجالسونها من باب المرح والتسلية، ما يحسب لحسناء أنها كانت حسناء اسما على مسمى، ولكنها لم تكن بائعة هوى وكانت لا تتاجر بجسدها، وهو بالتحديد الأمر الذي كان يعلمه جميع من يرتاد المقهى بما فيهم أنا، وأتذكر أنه في يوم ما جاء شخص غريب عن المنطقة وحاول أن يتطاول عليها، ولكن الحماية التي كانت تحظى بها كانت كبيرة، لقد كانوا على وشك أن يقتلوه، فلم يتركوه حتى لعن اليوم الذي قرر فيه دخول المقهى.

بالنسبة للطاولة القابعة على زاوية خمس وأربعين درجة من طاولتي كان يجلس “السي محسن” الذي يعمل في دار الضريبة، لقد كان وفيا لعادته حيث يأتي بعد يوم من العمل ومعه جريدة ليقرأها وهو يرتشف فنجان الشاي الناقص سكر لأنه كان يعاني من داء السكري، فينتهي من قراءة صفحة الحوادث ثم يمر إلى ركن الثقافة وبعدها يأخذ وقته في ملء مربعات الكلمات المتقاطعة.

كنت أحيانا أغيب عن طاولتي، ولكن ما كنت أفتقده هو أن أرى ذلك الجو الذي يخلقه زبائن المقهى المختلفين من حيث طيات وملامح وجوههم التي تخفي وراءها قصصا وتجارب عديدة، ومع مرور الزمن سقطت الأسماء تباعا فما عاد السي قادر يأتي للمطعم بعد أن أصبح عاجزا عن النهوض من على فراشه، وما عادت بعده تجلس حسناء مقابلة لي بعد أن استطاعت أن تفتح محلا خاصا بها تبيع به الحلويات والخبز وكل ما يتعلق بالمعجنات.

غابت أوجه عن المقهى وأقبلت وجوه أخرى لم أحس معها بما كنت أحسه من قبل مع من سبقهم، هؤلاء الناس الذين أصبحوا يرتادون المقهى يقيمون ضوضاء كبيرة تفسد خلوة المرء مع نفسه، بل وحتى طريقة تعامل المقهى تغيرت بعد أن حمل صاحب المقهى مسؤوليته لابنه الأصغر الذي لم يكن أهلا لتحمل المسؤولية.

ودعت طاولتي بعد أن حان وقت هجرها، لأتركها لشخص مجهول يأتي من بعدي.. فلا شيء يظل مثلما هو في هذه الحياة المتغيرة وما عاد المكان يناسبني بعد ذلك اليوم، إنها نهايتي وركن المقهى الشعبي.

1xbet casino siteleri bahis siteleri