فلسفة الأمية
ستعود بك ذاكرتك إلى سنين خلت ، عندما كُنت تسمع عن أشياء غريبة ، عن معتقدات عديدة كان يرويها أجدادنا، بعضها صحيح و الآخر مغلوط. سوف تتذكر عندما كانت الجدة تقول أن “الشخص الذي تتحدث عنه ويأتي فجأة سيكون عمره طويلا”، أوقد تسمع عن قصص و عبر تتحدث عن أناس كانوا يقومون مقام فلاسفة المجتمع ب “ضريب المعاني” و الذين كانت تنسب إليهم صفة “البركة”.
عند الوهلة الأولى قد يكون هناك شك بداخلك .. “هل ما يقال صحيح ؟”، لكنك بعد مرور السنين ستتذكر هذه الأشياء و تسرح بابتسامتك الممزوجة بروح البراءة، براءة افتقدتها مع مرور الأيام حتى بدت لك أشياء لم تكن ضمن توقعاتك ، بل تمنيت لو أنك لم تعرفها .
قد يتضح من خلال تأملنا لجوانب القضية أن أجدادنا و أجداد أجدادنا كانوا يعيشون في جو يعتمد بالدرجة الأولى على التجربة الدنيوية دون التمكن من العلم أو الدين أو المعرفة بصفة عامة، خصوصا و أن الفكر المغربي القديم لم يكن يؤمن بالعلوم . حيث كان الانطلاق من التجارب و التأمل في حركة الحياة وحده كفيلا بجعل ذاك العقل ينتج قناعات و أفكار يرثها جيل عن جيل.
إذا نظرنا من زاوية أخرى إلى القضية ، من منا لم يسمع كلمة “النيّة”؟ و هي كلمة تدل على البراءة الفكرية حسب قاموس أجدادنا ..عندما تريد أن تجادل أو تناقش أي شخص كبير في السن لابد أن يقول لك “هذاك الزمان زمان الغفلة و كانت النية” ، هذه العبارة التي تحمل في طياتها هول الصدمة . بل و إن صح القول هول التطور الذي واكبه ذاك الشخص . تطور لم يترك حتى أبسط الأشياء إلا و غيرها . حركة المجتمع تغيرت، عقلية البشر أصبحت منفتحة على العديد من الأشياء. الفكر ارتقى و تحرر .. الكل يبحث .. الكل يترقب .. بل و بلغة أبلغ “كل واحد حاضي راسوا” و كان الزواج يظل عائليا فيتزوج الأقارب و لا يسمع الرجل صوت المرأة حتى تدخل عليه ليلة الزواج ..و يفيد من عاشوا مع هذه الطقوس أنه كان يقال أن “سيدنا جبريل ينزل الستر على الأزواج”.
في ظل كل هذا ينبثق عامل آخر ساهم في ترسيخ العادات و التقاليد و هو الإيمان بسيرورة الحياة على نهج قار أو متكرر . فكانوا يثقون ثقة عمياء بأجيال خلت كانت تتناقل قصص تفيد “أن هناك شخصا ذو بركة أقاموا له ضريح بعد موته و كل موسم يقومون بحفلات و طقوس خاصة. في إحدى السنوات تم الغاء هذا الاحتفال فضربت المحاصيل و كان الانتاج الفلاحي قليل جدا مقارنة مع السنوات الفارطة”. الشيء الذي جعلهم يؤمنون بضرورة الطقوس الموسمية و بصحة بركة ذاك الفقيد بالرغم من أن لا هذا ولا ذاك كان سببا في حدوث الجفاف..
وفي رواية أخرى “كان هناك ضريح لسيدي بونحل و قد انبثق الاسم عن قصة تقول بأنه في يوم من الأيام، تم ربط الأبقار بقبر السيد و بعد عودة أصحاب الأبقار وجدوا الأبقار محاطين بخلايا نحل أتلفت جسد الأبقار” فأصبحوا يقومون كل عام بموسم لذاك الشخص. فمهما تطور الزمان، و مهما توالت الأيام و مهما زاد الوعي و العلم في الانتشار في أوساط مجتمعنا يظل الفكر التقليدي راسخا في أذهان أولئك الذين واكبوا تلك العادات، وسيظلون مؤمنين بصحة ما كان يفعل آباؤهم و أجدادهم حيث يظهر ذلك جليا بمجرد أن ترى في عيونهم ذلك الشغف و هم يحكون لك ما كان يجري في ذلك الوقت.
إنها قصص و عبر، قد تستنبط من وحي واقع كان يعيشه أجدادنا في الأمس القريب. واقع لم يعترف سوى بفلسفة الأمية و الجهل، صحيح ! لكن أيضا، لا يمكن إنكار أن البعض مما قيل شكل جسرا لربط الحياة بالواقع فأنتج لنا مفكرين و كتاب من ذاك العصر ، كل حسب درجة صواب تعامله مع المفاهيم و درجة ربط وعيه العلمي بالمعتقدات. كانت كلمات و قناعات تنطق بعفوية ! بثقة عمياء تترسخ في الأذهان بطريقة تلقائية. و الآن و ليومنا هذا لازالت تمثل عبرا و حكما ستظل أزلية .