اﻹرادة اﻹنسانية بين التحرر والخضوع

لعل أصعب وأشق عامل يزعزع اعتدال الإنسان وثباته على مواقفه وأفكاره هو دائرة المؤثرات الخارجية التي تحيط به؛ من أشخاص وثقافات موروثة ومعتقدات. فبينما كان الإنسان في صغره محكوما باتباع قوانين وعادات البيت، مذعنا منضبطا بأوامر كبار العائلة، أو حتى متجردا في نقطة ما من حرية تشكيل حلمه الخاص وملاحقة أحلام اختيرت له مسبقا من طرف والديه مثلا، وجد نفسه وها هو قد بلغ سن شبابه أو شيخوخته مستمرا في العيش بنفس تلك الخضوعية والامتثال، وفضل المضي مع القطيع عوض اختياره التخلف عنهم وسلك مسارا آخر ليلحق بما يؤمن به فعلا وما يحيي قلبه وروحه.

إذا ناقشنا هذه المسألة من المنظور الديني والعقائدي, ففئة منا ستتذكر وتستحضر حتما تلك المواقف التي أغرتنا فيها الظروف على إفلات بعض حبال الطاعات، بحجة أن الأكثرية، إن لم يكن الجميع قد أنقضها وأحلها. إذ عادة ما يصبح الإنسان ضعيفا لا يقوى على مقابلة هاته الفتن بالرفض والامتناع، وينغمس هو الآخر في ملذات الدنيا، ليتحول من عبد لله لعبد للناس. فكم من شخص سقط في أوحال الفساد والرذيلة كي لا يصبح منبوذا من طرف أصدقائه أو زملائه أو ليحافظ على وظيفته، فتناسى من إليه مرده وعاقبته. قال الله تعالى : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.

زارت امرأة صديقة لها تجيد الطبخ لتتعلم منها طريقة قلي السمك، وأثناء التحضير لاحظت أنها تقطع رأس السمكة وذيلها قبل أن تضعها في المقلاة، فسألتها عن سبب قطعها لرأس السمكة وذيلها، فأجابتها بأنها لا تعلم، وأنها تعلمت ذلك من والدتها فطلبت منها صديقتها أن تسأل والدتها عن السبب، فاتصلت بوالدتها وسألتها، لكن الأم أيضا قالت إنها لا تعلم، وأنها تعلمت تلك الطريقة من أمها (الجدة)، وعندما سألوا الجدة عن السبب أجابت بكل بساطة: لأن مقلاتي كانت صغيرة ولا تكفي السمكة بأكملها فكنت أقطع رأس السمكة وذيلها حتى تتسع لها المقلاة!

مقالات مرتبطة

إن المغزى من القصة هو أن البشر يقلدون بعض الأفعال الموروثة تقليدا أعمى دون التشكيك في مصداقيتها ومدى تأثيرها على حرية تفكيرهم. ومثال ذلك ما نعرفه من التقاليد والأعراف والطقوس المتجذرة في بلادنا منذ القدم، والتي تنافي المنطق والعقيدة الدينية بل منها ما يتسم بصفات الجاهلية. فهذه الأنماط الفكرية العامة التي أصبحنا نعيش تحت ظلها في حياتنا اليومة قد سلبت منا لاشعوريا إرادتنا لإخضاعها للمناقشة والتحليل. وهكذا، فأي محاولة لرفض هذه المسلمات المقدسة والاعتراض عليها أو محاولة تغييرها تبوء بالفشل. وهنا نتذكر مقولة توماس كارليل: “الرأي العام هو أكبر كذبة في التاريخ.”

لم يميزنا الله -عز وجل- عن سائر الكائنات بالعقل وحسب، بل بالفطرة السليمة والإرادة أيضا، فهاته الخصائص تكون لنا عونا عند التقدم بأي قرار أو فعل. والفطرة السليمة هي التي تعكس ما هو أخلاقي وسوي، وما هو خبيث ومكروه. فتملأ قلبنا بالبهجة وراحة البال عند المضي نحو الأول، وتبث في روحنا الندم وتأنيب الضمير عند الإقدام على الثاني. فلا تبخل في استعمال هذه الخاصية عند اصطدامك بمواقف تجرك إلى خطايا وملذات فطرتك تعلم بمساوئها. أما الإرادة، فهي حرية الإنسان في اتخاذ القرار واختيار الطريق الذي يريد المضي فيه. فلا تدع ثقل الانتقادات والسخرية أو قسوة العقاب يزعزعان عقيتك ومبادئك، وتسلح بالإرادة والحزم، واستعن بالله فهو حسبك ووكيلك.

وأخيرا، نختم بمقولة صلاح الدين الأيوبي: “قد يتحول كل شيء ضدك ويبقى الله معك، فكن مع الله يكن كل شيء معك.”

1xbet casino siteleri bahis siteleri