بئر رُصّعت حروفه باللؤلؤ المكنون

على تلك الطاولة المخملية فردنا ألسنتنا للجدال، كان الحوار يدور حول اسم البئر الموعودة، لم يفتقر النقاش أبداً للسخرية، ولم يعرف في أيّ وقت من الأوقات معنى للجد، ألقى كلّ واحد منّا اسماً اعتباطياً، اسماً شخصياً تعالت بعده ضحكات متنمّرة، أو اسماً مبتذلاً من قبيل “بئر الإحسان” عقبته نظرات مستهزئة. لم يأخذنا النقاش في النهاية إلى اتفاق، ولم نكن ننوي ذلك من الأساس، فالحوار منذ البداية كان هدفه جمع الاقتراحات، صحيح أنّنا لم نصل إلى ذلك، لكنّ طول الرحلة دفعنا إلى التأجيل حتى يتسنى لنا التفكير بجدّ.

وصلنا إلى الحافلة بعد ساعات من العمل الشاق، فبعد أن أنهكَ ظهرنا حمل الألبسة والأغطية، إضافةً إلى المؤن والمعدّات التي سنحتاجها في وجهتنا، وبعد أن قمنا بتحميل كلّ ذلك في الشاحنة استطعنا أخيراً مكافأة أبداننا بالجلوس على مقاعد الحافلة وشرب القليل من الماء.

كان عقرب الساعة يقترب من السابعة مساءً، وكانت أشعّة الشمس على وشك أن تدير ظهرها في الأفق، التقينا ببقية الأعضاء، كان لكلّ واحد منهم مهمة قد أنجزها، وكان ظاهراً على أجفانهم التعب، إلاّ أنّ أسارير الفرح والحماس قد غطّت على ما سلف.

أدار السائق المحرّك في جوّ من المرح والسرور، إنّ هذه الرحلة في الحقيقة ورغم كلّ ما يحوم بها من لهو ومرح إلاّ أنّها ليست برحلة ترفيهية، بل هي قافلة طبية وإنسانية ينظّمها النادي الجمعوي لطلبة الطب والصيدلة بالدار البيضاء “CADEMEP”، في إطار قوافله الطبية السنوية. 

من بين أهداف هذه القافلة تقديم استشارات طبية لفائدة سكّان قرية “أوزاكا” نواحي شيشاوة، قرية من قرى المغرب العميق التي تفتقر إلى أبسط وسائل العيش، يسعى النادي إضافةً إلى المساعدات الطبية إلى توزيع قفف المؤونة، بالإضافةً إلى الألبسة والأغطية، كما عزم على إعادة بناء مدرسة بالقرية وتجديدها بالكامل، دون أن ننسى محاولة النادي حلّ مشكل انعدام المياه بالمنطقة عن طريق حفر بئر بالقرية، وقد كان هذا الأخير موضوع نقاشنا آنفاً.

لقد بزغَت من بين أعضاء النادي فتاة عُرفَت بطيبة قلبها وسعيها اللامشروط لفعل الخير، فقد كان لها دور كبير في إنجاح القافلة، وقد شهد لها جميع أعضاء النادي بالتفاني والعمل الجادّ وسعة العمل الذي ورغم كبره وضخامته إلا أنّه يسير في طريق الكتمان والستر، إنّني وإن أردتُ الاستطراد في وصف أخلاقها ومساهماتها والأدوار الكثيرة التي لعبتها، لنفذت صفحات كتابي قبل أن أكمل الوصف، يكفي أنّني قد شبهتها تارةً قائلا: “هاجر باس بارتو” (PASSE-PARTOUT) أي ذلك المفتاح الذي يفتح كلّ الأقفال.

أقلعَت القافلة بسلام، بتلات التآزر والتضامن أزهرَت على حين غرّة، دماء السكينة ضخّت في قلوب ملؤها الإحسان والرحمة، ألحان الصداقة قرعَت على طبول المحبّة ولو كانت تثير الضحك في بعض الأحيان، فراشات السعادة حلّقَت فوق نواصي الأعضاء، والهدف واحد لا يخفى على أحد، إنّنا في نادي “CADEMEP” اجتمعنا على فعل الخير، ما دام هناك شخص بحاجة إلى جهدنا وطاقتنا فلا تمّت تراجع أبداً، إنّنا لا نعتبر أنفسنا أصدقاءً، بل نحن إخوة جمعتهم عائلة واحدة، لأنّ محبّتنا تجاوزَت محبّة الأصدقاء لترتقي إلى محبّة الإخوان. لو أمكنني اختصار ذلك الجو الذي ساد الحافلة، لقلتُ دفء وحنان الأم، ولتتخيّل عزيزي كلّ ما يصاحب العبارة من سعادة وحبّ.

كنتُ أتساءل في يوم من الأيّام كيف يمكن لحدث ما أن يقلب موازين الابتهاج والسرور إلى حزن وكرب، لقد كان هذا بالنسبة لي ضرباً من الخيال، خصوصاً في حالة هوسنا تلك. إنّ الإنسان يعيش في خطّ زمنيّ مستقيم ذو اتجاه واحد، وهذا ما يجعل قدرته على التنبّؤ بما سيحدث في المستقبل وإن كان قريباً منعدمةً، أنتَ تعيش الآن ولا تعلم ما سيحدث بعد دقيقة من الآن، هذا ما يجعل أيّ حدث مفاجئ بمثابة الصدمة، أو كما تعرف اصطلاحاً في مجال الأدب والسينما ب “PLOT TWIST”، إنّ وقع هذه الصدمة على قلب الإنسان يكون كوقع السكين على وريد الخروف، وما أكثر “بلوت تويستات” الحياة!

أسندتُ رأسي على المقعد الفارغ بجانبي، أردتُ أن أغفو قليلاً لأستجمع الطاقة للأيام القادمة، غرقتُ للحظات في بحر من الأفكار متعدّدة الألوان، إلى أن أتت على حين غرّة…! اتجهَت هاجر نحونا تترنّح بخطى متثاقلة، رافعةً سماعة هاتفها إلى صدغها، تردّد بصوت متقطّع ينمّ عن القلق: “ماذا حدث له هل هو مريض؟” تلبّسَت رجفة قوية بدنها الضئيل، وكسَت ملامح الخوف وجهها البريء، أشرتُ إليها للجلوس في المقعد الشاغر بجانبي، طوّقها عدد لا بأس به من الأصدقاء متسائلين عن ماهية الخبر الذي خطف لون بشرتها، لقد كانت في حالة اضطراب مرعبة، حتّى أنّي كنت أسمع وقع دقّات قلبها المتسارعة، أو لعلّها كانت دقّات قلبي، من يعلم!

سقطَت الدموع على ركبتيها ببطء، لم أرها في تلك الحالة في يوم من الأيام، قالت بأنّ المكالمة التي تلقّتها من أمّها قد أبلغتها بمرض والدها واشتداد حالته، وأنّ عليها العودة إلى البيت حالاً. لقد كانت ملامح وجهها تبعث عن عدم تصديق الموضوع، وكان شيطان أفكارها يسعى لإقناعها بأنّ شيئاً أخطر قد حدث.

مقالات مرتبطة

التفّت الحافلة لتدخل إلى مدينة مراكش، هناك كانت عائلة هاجر في انتظارها للرجوع إلى البيت، رافقها بعض من الأصدقاء إلى السيّارة، وعند عودتهم أعلنوا الخبر الذي وقع على صدورنا كالجليد الحارق، والد هاجر قد وافته المنية وأعاده المولى -عزّ وجل- إليه. اهتزّ كيان الجمع بعنف، تحوّلَت معالم البسمة إلى دموع، صيحات الحزن والألم خضبت الآذان، تملّكنا اليأس، انقبض صدري وتحرّقت مقلتاي، ثم فاضت دموعي.

إنّ ما يجعلنا نحزن على فراق شخص ما هو ارتباطنا العاطفي به، فكيف أبكي يا ترى على موت شخص لم أره قط، أنا حتّى لا أعرف اسمه، ما الذي فعله مع ربه لتلين قلوب العباد هكذا لوفاته.

شعرتُ بالإرهاق، وكان آخر ما سمعته كلمات من فم طبيب بجواري: “لا حول ولا قوّة إلا بالله، الكلّ حزين، كيف يمكن لهذه القافلة أن تستمر”.

وصلنا إلى وجهتنا، كان أذان الفجر يوشك أن يرفع، كنتُ أعلم بأنّي أحتاج إلى تأمّل داخلي لتجاوز الصدمة. “انتهى وقت البكاء وحان الآن وقت العمل، لن ينفع بكاؤنا هذا المرحوم بشيء، لكن بالمقابل هناك أعمال أخرى سيصل أجرها إليه لا محال، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). أمّا الصدقة الجارية فنحن بصدد حفر بئر وإنشاء مدرسة بالقرية، وأمّا بشأن الولد الصالح فهاجر اختنا جميعاً، وأبوها هو أبونا جميعاً، إذاً فنحن جميعاً في مقام أولاده، وسيكون سلاحنا الدعاء عوض البكاء”. هذا ما تردّد صوته داخل رأسي.

قذفَت هذه الأفكار في قلبي نوعاً من السكينة، ألقيتُ نظرةً على الهاتف فوجدتُ الساعة قد حانت، نزلتُ إلى الأسفل ففوجئت بنظرات الآخرين، وكأنّ الجميع يفكّرون فيما أفكّر. تضاعفَت طاقتهم فجأةً، وأصبحوا للعمل مستعدّين، إن الهدف قد تغيّر الآن، وأصبح كلّ عملهم يسير في سبيل الله أولاً، ثمّ إلى أب صديقتهم آملين أن يوضع في ميزان حسناته. وأمّا إذا كانوا سابقاً قد يقبلون بقليل من الاستهتار لأنّ الأمر كان يتعلق بهم فقط، فهم الآن لا يرضون أن تنقص حسنة واحدة من صدقة المرحوم.

أبان الجمع عن روح مسؤولية لم أعهدها قط، تجلّت هذه الروح في الابتسامة التي استقبلوا بها سكّان القرية العليلون، أناس عاث فيهم الدهر بلاءً، يجرّون أقدامهم بتثاقل طغى عليه حمل الزمان، يأملون أن نكون سبباً لرفع ولو قليل من أسقامهم، أمّا ضحكات الأطفال الصغار، وقفزاتهم المرحة على إيقاعات أناشيد الطفولة كانت بمثابة المخدّر الذي أسكر عقولنا وأنساها الأحزان.

مالت الشمس قليلاً عن الخطّ الموازي للأجسام وحانت ساعة الحسم، اللحظة التي انتظرها الجميع. اجتمع الكلّ حول المسبار الذي يحفر البئر، متلهّفين تملأ عيونهم نظرات الترقّب، ومع خروج أوّل قطرة ماء اقشعرّت الأبدان، واغرورقت الأعين، وتعالت صيحات الحمد والصلاة على الحبيب الرسول، في لحظة رأينا فيها كلّ الإرهاق يُدّك دكاً حتى صار كالهباء المنثور.

اتفق الجميع اتفاقاً لم تنطقه أفواه، ولم تسمعه آذان، لكن أدركته القلوب بهدوء. اتفقوا على تسمية البئر ببئر “الحاج نور الدين” كنايةً على أب اختنا المرحوم، كما قرّرنا إطلاق نفس الاسم على المدرسة التي سرقَت النصيب الأكبر من الجهد المبذول، فبعد أن انشغل فريق التجديد بالعمل طوال اليوم من طلوع شمسه إلى غروبها، وجدوا بأنّ الوقت لن يكفيهم إذا ما توقّفوا وأكملوا في الغد، فما كان منهم إلا أن سهروا الليل بطوله، ترتجف أبدانهم من شدّة الصقيع، وتدقّ قلوبهم على صوت الغسق الصامت، لا يثنيهم نوم عن المضي قدما.

انتهت القافلة وتركَت خلفها مجموعةً من المواعظ تدفعنا للتأمّل في ماهية الحياة وسيرورتها، وكما أسلفتُ الذكر سابقاً كون الإنسان يعيش في خطّ مستقيم واحد لا يجعل من الأمر حقيقةً مطلقةً، لأنّ هذا من منظور الشخص فقط، أمّا من منظور أعلى فالإنسان يجد نفسه باستمرار أمام مجموعة من الاحتمالات، يختار في النهاية أحدها ويترك الباقي، ومع توالي الاختيارات يرسُم الإنسان مسار حياته بخطّ عريض وسط عدد لا متناهي من المسارات المرسومة بخطّ متقطّع، كان من المحتمل أن يسلك إحداها لو تغيّر اختيار واحد فقط من بين كلّ اختياراته. هذا ما نطلق عليه بشكل مبسّط “القدر”. إنّ الله عزّ وجل بعلمه المطلق يعلم بشكل دقيق الشبكة المعقّدة لكلّ واحد منّا، هذه الشبكة التي يصعب على العقل البشري استيعابها، فيكون كالأعمى وسط متاهة، لكنّ رحمة الله تكون بصره الوحيد وترشده في أحيان كثيرة إذا ما كان صادقاً ومخلصاً لا يفارق لسانه دعاء.

إنّ القافلة من الأساس كان من المفترض إقامتها أسبوعاً كاملاً قبل وفاة المرحوم، لكنّها أجّلت لسبب لم نتبينه إلا بعد أن انتهت. إنّ وفاة المرحوم في يوم مبارك وشهر مبارك في حدّ ذاته خير يتهافت عليه المتهافتون. أتظنّ أنّ كلّ هذا مجرّد صدفة! بالطبع لا بل كلّ شيء مدبّر ليصبّ في مكاتب المرحوم، إنّي وبعد أن قفز إلى مسامعي أحاديث من مقربين عن حياة المرحوم بطلت دهشتي وأصبح كل ما رأيته منطقياً. إنّنا نؤمن بأنّ والد صديقتنا وليّ من أولياء الله الذي قال فيهم المولى جل جلاله: (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، وقال تعالى: (لَهُمُ البُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). فماذا عسانا نتمنى غير فوز كهذا، وحسن خاتمة كهذه.

فاللهم ارحم الحاج نور الدين، وأسكنه فسيح جناتك يا رحمن يا رحيم

1xbet casino siteleri bahis siteleri