يحكى أنه في الأزمان الغابرة، وسط قرية بسيطة، كانت تقطن فتاة في مقتبل ربيع عمرها، لا يعرف اليأس لها طريقا، شعبية بطبعها كل من في الحارة ينادونها بانشراح، لأنها منبسطة الأسارير، سرمدية التفاؤل، ومتدفقة العطاء والنشاط.
كان لانشراح عينان واسعتان لوزيتان تسر ناظرها، بل وتأسره بهما، وكأنهما لم يخلقا للحزن أبدا، ناهيك عن طبعها المتراقص بين نضج عقلاء وبراءة أطفال، فتارة تجدها منغمسة بين الروايات تدندن للعندليب وكوكب الشرق وتارة أخرى تجدها مستمتعة بالأرجوحة متهللة الوجه كأنها أول مرة تركبها وتنتظر بائع البالونات وغزل البنات كي تقتنيهما وتستمع بيومها. باختصار، كانت نورا يسطع ويشع لينير عتمة الحي.
في يوم من الأيام غادرت بلدتها بصمت وسط معمعان قيل أنه تراجيدي، أفقدها طعم كل ما كانت تمتلكه آنذاك. فيا حسرتاه على من كانت بالبهجة مرصعة، اتشحت رداءها الأسود واتجهت نحو الحافلة. الغريب في الأمر أنها لم تحزم أمتعتها معها، رحلت هي وروحها فقط، تجأر بالرثاء على ضريحها وهي لا دمع ولا صوت وكأنها رفعت راية الاستسلام. تساءل الجميع عن مدى قسوة ما درج بها ورمى بها وسط الحداد.
انتقص حبورها من بين براثن أيام للبحث عن مأوى مستطرف لها بعيدا عن كل اُثر، بيد أن ذكراها كلما دفنتها تلقاها سلكت طريقا للعودة من جديد، فتجد ذاتها راكضة وراء النسيان، لكن هيهات فلقد تاهت عن مسلكها وها هي ذي زادت الطين بلة.
إن تساءلتم عن ما حدث تلك الليلة فمثلي مثلكم أجهل الأحداث، لكنني نسيت أن أخبركم بأن انشراح كانت فتاة تهتز لها القسوة فما كان لخبر صادم أو فاجعة أن تزحزح عنها ابتسامتها، وكانت أول جملة تتفوه بها هي هذا قضاء وقدر، لم أكن أعلم حينها أن الصبر جميل لكن له قوانينه وأحكامه، فانشراح كانت حتى على ذاتها قاسية تستمر بالتجاهل والمضي قدما متناسية أن النفس ضعيفة.. لا زلت أتذكر نصائح أمها لها كلما أحست بعبء الحياة عليها، لكنها كانت دائما ما تتجاهل إرهاقها وتلح على أنها بالعيش مستمتعة ومتلذذة، بل أن الروح تآكلت حتى تلذذ التعب والعياء منها.
مرت الأيام ومر الدهر، لكن انشراح لم تعد إلى الحي لا هي ولا أخبارها ولو المزيفة منها، تركتني وحدي لا أفقه شيئا.. أصبحت القرية مهجورة اهترأت جدرانها وتصدأت أبوابها كأنها سقت عطشها من كأس رجس سأم الانتظار، مناولة إياه لسكانها ليتجرعوا منه يأسا، ويهتفوا به أناشيد تعاستهم حتى توفتهم المنية وهم باللحن متشبثون..
جاء الليل وجاءت معه رائحة الشوق، لن أكذب وأقول أنني لم أحن إلى طفلتي المخبولة المطموسة التي تركتها تائهة بين الأزقة هناك، فما زلت أتحسر على مدينتي القديمة وحارتي الجميلة، سيظل الأسى على جبيني قائما ما دمت أتنفس، لكنه في المقابل جد كفيل بإحياء حلكة تلك الليلة.
أتذكر ذاك اليوم وكأنه البارحة، لا زلت أستحضر تفاصيله بدقة، كان يوما عصيبا، أجبرت فيه على أن أخفي نحيطي وأزين وجهي بابتسامة مزيفة.. كان يوما مهما حينها، لم أكن أدرك قط أنه سيتحول من سهرة إلى عزاء انتزع مني مغامدي، ففيه أعلنت الحرب على نفسي إذ قررت المضي على جسر هزائمي.
أجهل سبب هجرتي لمدينتي، ولا أستريبه، لكنني أعلم أنني كنت السبب في ذلك فتلك التفاصيل الصغيرة التي كنت أتعاماها وأستصغرها هي من بنت لي جبل انهياري، تنازلت حتى افترسني الحياة دون رحمة، ظننت أن صندوقي السحري المقفل مستريح، بيد أنه أضناه عدم الالتفات هذه المرة ونفذت بطاريته فقذفني في ورطتي، جوف آلامي أصول وأجول. لن أقول عنها ورطة لأنني من انتقى أدق تفاصيلها، فربي كان بنفسي أرحم غير أنني لم أكن.
مصاعب عدة خضتها كي أتم ما استهلته انشراح. أجل، لا أريد أن أشفى منها ولا أن أتخلص، فأنا لا أريد أن أخلو من ماضيها بل أن أختلي به من ثغرات وشوائب، وها أنا ذا قد عودت أناملي على الكتابة وأتعلم شيئا فشيئا كي أتلذذ طعم البوح ولا أخشى الكلمة.
قصتي وانشراح انتهت هنا، ويبقى آخر كلامي “أطلق العنان لدموعك وهيئها للذرف، لا تكن لها منعرجا، جد لنفسك سبيلا للتعبير عن آهاتك فكما تنجدني السطور تنجدك آلاف الطرق!”