تبدو الحياة المدنية مغرية بالتجربة لأولئك الذين لطالما عاشوا على هوامشها دون أن يطالهم شيء من حضارتها، غالبا ما تجدهم متعطشين لتجربتها وخوض غمارها، تظل دوما في أذهانهم ذلك الحلم المؤجل لأسباب أقوى منهم.
الأمر يبدو مماثلا لنا نحن أبناء المدن في رغبتنا في استغوار أماكن جديدة، في الغالب تأخذنا أحلامنا إلى أماكن خارج الحدود، بعيدة جدا ربما أو قريبة لكنها تظل مغرية بالاكتشاف، خاصة إذا ماكان أصحابها ينطقون بلسان غير لساننا أو يملكون بشرة أكثر بياضا.
يظل المرء يتوق إلى ذلك المجهول الذي جربه الآخرون وألفوا عنه القصص والروايات والحكايات التي قد تحمل في طياتها الكثير من المبالغة، في حين يبقى ما نملكه بين أيدينا غير باعث للتأمل أو الاستقراء، لكن ومهما قاومنا تلك الرغبة في العودة للجذور والانغماس فيها واستبدلناها برغبة ملحة في اكتشاف المجهول، يبقى هناك شيء في أعماقنا يقودنا إلى أصلنا الأول “التراب”.
كي تعود للأرض وكي تستنشق عبق التراب وترتمي في شساعة الكون قد لا تحتاج إلى تأشيرة دخول أو خاتم سفارة، قد يكون الأمر قريبا جدا من عينيك لكنك قتلت فيهما روح الاندهاشة الأولى ورجفة التجربة الأولى ابتسامة الاكتشاف الأول التي تصيبك بالذهول، قد تصاب مشاعرك بالتبلد بفعل التعود على رؤية الأشياء دون أن تجد نفسك قادرا على استطعامها كما فعلت أول الأمر.
قد لا يتطلب الأمر منك أكثر من محاولة الانسجام مع الطبيعة التي منها أتيت و إليها تعود، في محاولة لاستكشاف سر إشراقة الشمس وامتداد خيوطها كأنها سيل دفق يربطك به و يهوي بك إلى حيث يريد، تلك الرسالة الحبلى بالأمل مع كل خيط سنا يصافح الأرض كل صباح وينفض عنها غبار عتمتها، ذلك اللون المختلط بالحمرة والحلكة معا، يفرج عن ابتسامة السماء كأنها لتوها ولدت، ولادة متكررة كل يوم تخبرك أن الحياة لا تعرف الركود ولا تعترف بالعادة، تعرف أن كل صباح هو صباح مختلف عن سابقه، كل زفرة للكون وكل شهقة هي حياة كاملة تستحق أن تعاش.
قد لا يتطلب الأمر منك أكثر من محاولة معانقة السماء من أعلى قمة بالجبل وهي تبسط بساطها الأبيض الذي يكسو الجبال كلحاف من حب سرعان ما ينقشع كلما أسفرت الشمس عن نفسها أكثر، تعانقها كأنك تعانق الكون وترقب بشغف ألوانها الذابلة تارة و المشرقة تارة أخرى.
قد يكفيك أن تتأمل الجبال من حولك كأنها أوتاد قد نصبت كي يستقيم الكون قائما، تلك الرهبة التي تحدثها، ذلك الصدى الذي يتردد بين أذرعها، ذلك الدفء الذي قد يؤنس وحشتك أو قد يزكيها إذا ما استحال صقيعا، كل تلك المشاعر القابعة عميقا ما تنفك تنقشع وتطفو مغرقة قلبك بالحب إذا ما سمحت له.
قد يكون كافيا أن تجلس على ضفة نهر مهجور لا يزوره أحد، يشهد على آلاف الأقدام المارة أمامه بلا مبالاة، يسمع آلاف القصص المتناثرة هنا وهناك، قد يكون غسل أدران المئات من الخلائق التي لم تستطع الاعتراف بذنبها لأحد، قد يكفيك أن تجلس معه مخرجا كل ما في جعبتك، محدثا إياه كما لم تحدث أحدا، مصغيا لحديثه السمفوني الهادىء الذي لا يتوقف عن التكرر لكنه مع كل مقطع يعطيك بعضا من روحه فتعتقد وكأنك تسمعه لأول مرة.
قد لا يتطلب الأمر أكثر من استمتاعك بعطر التراب يتفتق بعد كل زخة مطر تأتي لتخبرك أنها رواء للقلب قبل أن تكون رواء للأرض، قد يكفيك مراقبة انعكاس ضي الماء على وريقات الزيتون كأنها قطع لؤلؤ لتوها انبثقت من لجة مخبوءة، وتنصت لصخب المخلوقات من حولك كأنها تحتفل، وتغرق في ابتسامات الصغار والعجائز كأن قلوبهم هي التي تبتسم.
قد يغمرك الكون بحبوره و أنت تنصت لشدو عصفور شريد وجد ضالته في قلب جذع هرم مازال يحارب كي يكون مأمنا للعابرين، أو تنتعش بنسيم بارد جاء ليهدئ من وطأة الحر وآخر دافئ يدثرك من برد الشتاء القاهر.
قد تشعر أن فرحة الكون تغمرك وأنت على شط بحر تتخاصم فيه الأمواج، فتصيبك بالذعر مرة، برذاذها الباعث للحياة مرات، بالسعادة الغامرة كلما اشتدت زرقته وتلألأت المياه بباطنه، تأتي راغبا في تبادل أطراف الحوار، تنصت له فتحسبه غاضبا ثم ما تلبث تكتشف أنه وقار لا يليق إلا به، تسرد له قصتك، ثم تسمع هديره الذي يقودك إلى أعماقك المظلمة تماما مثل حلكته التي تخاف أن تجرفك إلى باطنها فتهلك.
قد يكون كافيا أن ترفع عينيك إلى السماء لتبصر بقلبك رحابة صدرها و صفاء لونها، تتراءى لك الغيوم كأنها حكايا مسافرة ما خلقت إلا لتُظل عابرا للطريق وترأف بعجوز خانه شعر رأسه ساعة احتاجه وتبسط من ظلها الوارف على فراش الكون المتعب من الهجير.
سيكون كافيا أن تعرف أنك جزء من هذا النظام الالهي المحكم الموغل في الجمال، المرسوم بعناية ، المتآزر في الخير، المتراحم في الشر، ستعرف أن السفر الحقيقي هو الذي نقوده في ذواتنا عميقا في أرواحنا حثيثا، محاولين استكشاف هذا النظام الانساني المعقد بالتفاصيل، البسيط إذا ما جعلت آداة استكشافك هي الحب والحب فقط.
