رمضان.. ذكريات من زمن فات

غريبة هي الذكريات، تظل مخبوءة في أدمغتنا، نظن أنها ولت إلى حيث لا رجعة؛ لأن مكانها أحداثاً عظاماً حلت، ومواقف شتى حدثت، ووقائع أخرى فرضت نفسها.

يتبدل الحال، أحاول السفر عبر الدماغ إلى ذاكرة الطفولة السعيدة؛ لأجد في ركن ركين فيها رمضانات الصغر التي تأبى الذاكرة أن تتخلى عنها، وكيف تفعل، وفي رمضان الصغر ذقنا حلاوة معنى أن يتحلق القوم على اختلاف ثقافاتهم، وأعمارهم، وقدراتهم على التلاوة، يتحلقون حِلَقاً حول القرآن الكريم، ومنهم الماهر به والمتتعتع، يردهم حين الخطأ، أكبر من في الحلقة سناً وأتقنهم له تلاوة، أفتش اليوم عن حلقة واحدة للقرآن الكريم فلا أجد في مسجدنا المبارك، ماتت حلقة قرآن الفجر والعصر بموت الرجل الصالح، العم أبوصلاح محمد يونس، رحمة الله عليه ورضوانه.




لكأني بي، أراني صغيراً يجلس في حلقة القرآن بعد الفجر، أتلوه بإتقانٍ، ولا ألبث حتى يقاطعني الشيخ محمد يونس، بعبارته المعهودة “حسبك، وفتح الله عليك”، ولم أكمل ربع جزء من القرآن بعد، فقد كان يقسِّم الربع بيني وبين أخي، وكان هذا يثير حفيظتي، وما زلت كذلك حتى عرفت حلاوة السماع للقرآن، فامتنعت عن التحفظ، فالمجد كل المجد لحِلَقِ تلاوة القرآن تلك التي رُبينا فيها، وتعودنا فيها على تلاوة القرآن، ووصلنا فيها لرتبة “الماهر به” وأظل أنظر كل يوم بعد الفجر والعصر في مسجدنا على أمل عودة هذه الحِلَق، وأنَّى تعود وقد مات عمودها، ولم تجد لها عماداً بعده.

في درج آخر من أدراج الذاكرة، تفاجئني واقعة حدثت بيني وبين أخي الأكبر مني، حين قرأت حديثاً للنبي يجازي من يفطر صائماً بمثل أجره، وقد فهمت الحديث بشكل خاطئ تماماً، فهممت بوضع تمرة في فم أخي، ولما يؤذن المغرب بعد، فتحاشاها وزجرني لأني أفسد عليه يوم صيامه، وقد كنت صغيراً، وفهمّني أبي حينها معنى الحديث، بغض النظر عن القصة وطرافتها، فقد أعطتني مدلولات حالياً، بأن الإنسان عليه أن يراجع فهمه في مواقف تتباين، وألا يسبغ على نفسه هالة من قدسية الفهم؛ لأنه قد يكون مجرد أعمى جاهل، ولا عيب في السؤال ما دمت ترغب في التعلم.




ومما أذكره أيضاً، يوم كنت في الصف السادس الابتدائي، وكان درس الإنجليزية هو الدرس الخصوصي الوحيد لي، وتعمد الأستاذ أن يأتي بنا في الساعة السابقة للأذان، كنا نكسر صيامنا خارج البيت، ونهرول في الشوارع لئلا يفوتنا شيء من مائدة الإفطار العامرة، التي كانت مليئة ذات يوم، غير أن أمي وأخي الأصغر لم يكونا جالسين عليها، لعملية جراحية كانت له في القاهرة، ما زلت أذكر كيف عافنا الطعام، أو نحن من ابتعدنا عنه بالأحرى، لأن حلقة ما كانت شاغرة، هي “اللمّة” على الفطور في رمضان.

ليس رمضان هو وحده من يتغير، فإذا كنا صغاراً نصوم في الشتاء والآن نحن كبار ونصوم في حر الصيف، فقد كنا أيضا صغاراً نتمتع ببهجة رمضان، كل تفصيلة فيه كانت تؤدي بهجة من نوع خاص، بهجة تبدأ مع السحور وصلاة الفجر، ولا تنتهي مع اللعب بعد التراويح، مَن أَسَرَ البهجة هذه، خبرونى أين ولت وجهها فنقصدها، ولو بعد حين، فما هذا برمضان الذي ترعرعنا معه سعداء به، وما تلك ببهجة تكفي لصدور باتت في غمرة من الحزن والأسى.

 

هذا المقال منشور في الهافينغتون بوست عربي للإطلاع على النسخة الأصلية أضغط




1xbet casino siteleri bahis siteleri