زاوية معتمة

بعد أن يشتد الليل ويسكن الناس إلى أنفسهم ويغطيهم الظلام بلحافه ليستسلموا للنوم صاغرين مستدفئين، هناك في مكان ما، في زاوية معتمة باردة، بعيدة عن الأعين ربما أو على مرأى منها لكنها تمر دون أن تعيرها اهتماما، في بقع كثيرة من بقع هذا الوطن في أنحاء شتى من هذا العالم، هناك أماكن مظلمة ليس لأن الضوء لا يصلها ولا لأن الشمس لا تصافحها، وهي باردة باردة حقا، ليس لأن السماء تمطر ثلجا ولا لأن الشمس تغشاها السحاب، وهي موحشة موحشة كزنزانة فردية نخرتها الرطوبة واستوطنتها الفئران، وهي ليست موحشة لأنها خالية من الناس، بل تضج بكل أنواع البشر لكن لا أحد منهم مهتم بمن تبقى من أبناء جلدته.

كلهم يمرون غير آبهين، بعضهم ينظر نظرة استعلاء، آخر يلمحهم بشفقة، قليلون تغرورق أعينهم بالدموع وتقتلهم قلة الحيلة.

قد تجدهم قرب عربة قمامة، تحت جسر منسي، يستوطنون أماكن مهجورة، يختبئون من الناس ومن أنفسهم، مغيبون غالبا، أشكالهم تبعث على الذعر أحيانا، لم يستحموا لأسابيع أو لأشهر، يتوسلون ويتسولون، لا ليأكلوا أو يشربوا، فقط ليستنشقوا ريح محلول يمنحهم دفء ليلة وصباح.

و أنت تمر أمامهم قد تحتقرهم أو قد يثيرون في نفسك خوفا، قد تعتبر مصابهم مسؤوليتهم وحدهم وقد تلوموهم على عبثهم وتهورهم، قد تمضي في طريقك دون أن تكلف نفسك عناء السؤال “لم كانت نهايتهم على هذه الشاكلة؟” “لم يستوطنون الأزقة ويفترشون الطرقات؟ “لم يدثرهم الليل بدل اللحافات؟”

635980152524254633928882284_homelessness-look-away

غالبا تمر دون أن تسأل لأنك لا تريد أن ترهق ضميرك المرتاح بالأسئلة، غالبا لا تسأل لأن الأجوبة أحيانا قد تكون موجعة، لأنك كي تجد جوابا عليك أن تضع نفسك مكانهم، عليك أن تتوقع أنك ذات يوم قد يصيبك ما أصابهم.

بعضهم كان مرتعا في النعيم قبل أن يزول، بعضهم الآخر ما زال يلحق حلم هجرة لم يزُل، منهم من أرهقته المشاكل والشجارات فاستعاض عن دفء الجدران بلهب الشوارع، هناك من تخلى عنه ذووه ونسوه دون سؤال…

مقالات مرتبطة

هناك مئات القصص خلف كل واحد منهم، هناك بحور من الحرمان وكثير من الكلام الذي لايقال، هناك حكايا لا تقص وأخبار لا تسع المسامع أن تستوعبها، لكن خلف تلك الحكايا أناس مكتملوا الإنسانية مثلنا، يشتاقون لكلمة طيبة، للقمة هنية، لحضن الأسرة، لرائحة القهوة أول الصباح ولدفء خبز فرن تقليدي يُشتم عبقه من مدخل الزقاق.
هم أيضا يفتقدون مشاعر الود والحب، يشتاقون لوجه بشوش يبتسم لهم دون أن ينتظر مقابل، وليد تمد لهم دون أن يطلبوها، يتمنون أن يحتفلوا بالعيد كما نحتفل وأن يفطروا على حبة تمر وكأس حليب بعد يوم صيام طويل.

لا شك أيضا أنهم يشتاقون لجدران تأويهم ولمحبة ترويهم، لا شك أنهم يناجون الله آخر الليل وأول النهار تماما كما نفعل نحن.
ليسوا من عالم آخر كما نعتقد، في يوم من الأيام كانت أحلامهم تشبه أحلامنا، لكنهم توقفوا عن الحلم لتعوض المستنشقات الطيارة حاجتهم للأحلام، هم أيضا كانوا يتمنون أن يكون لهم مستقبل وبيت يؤويهم وأولاد يحمونهم، هم أيضا كانت لديهم عائلة وإخوة وجيران وأحباب وقصص وأماني، لكن قسوة الحياة وسوء الاختيار جعلت الشارع بيتا لهم وعجلت بتحطم كل الآمال المرسومة على عتبة الواقع.

Homeless-Maany

لم تنتكس فطرتهم كما نظن بل ربما فطرتنا نحن هي المنتكسة، فطرة التكافل والتعاون، فطرة التضامن وكفالة اليتيم وستر الأرملة والأخذ بيد المحتاجين، فطرتنا نحن ما تحتاج إلى تدخل تطهيري عاجل لمقولة “الدنيا بخير ما دمت أنا على خير..“.

فطرتنا التي تسمح لنا أن نمر كل يوم من نفس الزقاق لنجد نفس الناس يلوكون التراب وما تبقى من فضلات، وتجعلنا نتعايش مع وجوه يغطيها البؤس والحرمان حتى تصبح مشهدا روتينيا لا يحرك في دواخلنا ذرة مشاعر.

أحيانا أعتقد أننا نحن المساكين الحقيقيون لأن من فقد إحساسه بالآخر، بآلامه وأحلامه، بوجعه وسقمه، بمرضه ووهنه هو من يحتاج شفقة على قلبه الذي انتكس.

قد لا تستطيع أن تكون عونا لهم، وقد لا تتمكن من مساعدتهم، لكن يمكنك أن تفكر فيهم كل ليلة قبل أن تضع رأسك على وسادتك الوثيرة، يمكنك أن تخصص لهم حيزا من تفكيرك ودعائك والأهم أن لا تنسى أن كل واحد منهم هو “إنسان مكتمل الإنسانية” ربما لو جربت أن تنفض الغبار عنه وتمد له يدك مصافحا لوجدت معدنا أكثر صفاءً من ذاك الذي يسكنك.

1xbet casino siteleri bahis siteleri