طَبْطَبَةٌ على الطبيب

كلما طالعتُ خبر وفاة أحد زملائي الشباب من الأطباء على صفحات الفايسبوك، والذي صار اعتياديًا مع الأسف، إلا وانخرطت في تحليل عميق للمسببات التي قد تجعل عمر الطبيب أقصر من غيره. أطباء في ريعان الشباب، وزهرة أعمارهم، تُخطف منهم الحياة على حين غرة. هم الذين أفنوا أعمارهم للسهر على صحة المرضى ومحاربة الأسقام، تجدهم ومن حيث لم يدروا، صاروا فريسة للأسقام والعلل بل والأشد، تباغتهم السكتة القلبية غالبًا فلا تترك لهم مجالًا ولا فرصة ثانية.

من يعرف حياة الطب والأطباء، يدري يقينًا أن أيامهم ليست مفروشة بالورود وليست بالجمال والبريستيج الذي يُصوَّرُ لنا في الأفلام دائما؛ فمنذ حصولهم على شهادة الباكالوريا ووُلوجِهم كلية الطب، ينخرطون في مسلسل لا متناهٍ من الأحداث الضاغطة.
المباراة ثم الدروس والاختبارات النظرية، تليها المرحلة التطبيقية حيث تكون تحت رحمة ومِزاجِية الرؤساء في نظام تعليمي ضاغط وجب مراجعته، ثم مناقشة الأطروحة والتخصص الطبي بمداوماته التي تصل غالبًا الليل بالنهار دون احترام للمعايير الإنسانية وللراحة المطلوبة بعد المداومة؛ ناهيك عن طبيعة عمل الطبيب في حد ذاتها التي تجعله يواجه الموت ويرى أهواله بأم عينيه أو على الأقل يمتص تواليًا شكاوى وأمراض الناس على طول الأيام.

ينضاف إلى هذا وذاك، راتب أو منحة هزيلة يتم تأخيرها لأشهر عديدة، كما عهدتها سابقًا، ثم تعطى على شكل هِبةٍ صغيرة مجموعة يرسلونها للطبيب لعلها تبرئ بعضًا من جراحاته لكنها لا تسمن ولا تغني من جوع.

ونحن في طور التعلم، مررنا كلنا من هذه المراحل المضنية، وعايشنا الضغوطات من جميع الأصناف، خصوصًا بعد مروري في فترة التدريب كطبيبة داخلية ثم في طور الاختصاص. ومع الأسف، لم تكن لنا الأسلحة النفسية الكافية لمواجهة هذا الكم الكبير من التوتر. درسنا كل شيء إلا كيف نهتم بأنفسنا وسلامتنا النفسية. التهمنا النظريات والكتب، واستظهرنا العلاجات عن ظهر قلب ولكن كيف نداوي جراحاتنا التي تراكمت على مر سنوات الدراسة؟ بل وأحيانًا كثيرة، يضطر الطبيب أن يخفي ألَمَه ومعاناته، مخافة أن يتم نعته بالعجز والتقصير. يداري كل شيء في ابتسامة باهتة يقدمها قربانًا لمرضاه في أيام المداومة ثم يعود باكيًا ألف مرة خاويَ الوجدان، أجوفاً، موحش النفس وفقير الروح.

كان يلزمني سنوات عدة وكثير من النضج، لأفهم في الأخير أن الطبيب ورغم نبل عمله إلا أنه وأكثر من غيره، يحتاج لأن يُعبِّأ رصيده من الإيجابية باستمرار.
جميع الدراسات العلمية أثبتت خطر التعرض للتوتر المزمن على صحة وجسم الإنسان، كيف أنه ينقص المناعة ويقصر العمر عن طريق تعريض الإنسان لكافة الأمراض المزمنة التي تصيب مختلف الأجهزة الحيوية من الجهاز العصبي إلى القلب والشرايين ثم الجهاز الهضمي، بل وحتى الجهاز المناعي الذي يختل توازنه نتيجة الضغط المزمن.

والسبيل الوحيد لمواجهة هذا الخطر المحدق بالعاملين في القطاع الصحي هو أن يعرفوا ويَعُوا سبل الوقاية قبل العلاج. وجب أن يتعلموا من جديد أبجديات إزالة التوتر بانتظام، عن طريق اعتماد ساعات النوم الكافية، والرياضة المستمرة وتقنيات التأمل والنمط الصحي للعيش. وقد تبدو هذه الخطوات بسيطة لأول وهلة، لكن لها وافر التأثير على المدى البعيد، فإن اعتمدها الطبيب وخصص وقتا كافيا لممارسة ما يهواه من أنشطة بعيدة عن مجال عمله، وأتقن فن العيش بذكاء دون احتراق، سيمكنه ذلك من العطاء المتألق المتواصل في العمل دون الوقوع في فخ le burn-out أو الاحتراق الوظيفي الذي يعايشه أغلب الأطباء.

ومن جهة أخرى، حبذا لو تلتفت الوزارة الى هذا المشكل وتقترح حلولا عملية فعالة؛ كزيادة الأجور تحفيزياً بالنسبة للتخصصات المُرهقة وزيادة تعويضات المداومة، واحترام القرب وجمع الشمل الأسري، والتفكير في استراتيجيات ترفيهية وأنشطة موازية تُخرِج الطبيب من دوامة الروتين المتعبة من جهة، وتزيد من مردوديته وإنتاجه العملي من جهة أخرى.

وفي الأخير، أرفع قبعتي عاليًا لكل إخواني الأطباء المرابطين أينما كانوا، وأشد على أيديهم، فما أعظم رسالتنا في هذه الحياة!
وأذكرهم بمقولة جميلة تقول: لا تكن كالشمعة تحترق من أجل الآخرين ولكن كن كالشمس تبتسم كل يوم لتضيء دومًا لنفسها ولِلعالمين.

1xbet casino siteleri bahis siteleri