على أهبة الارتقاء

بكل نفس أتنفسه هناك صراع بيني وبين الأجل، نعم أنا أحتضر منذ وقت طويل، ميتة أنا بالرغم من كل مؤشرات الحياة بجسدي، دقات قلبي تتزايد، نفسي ينقطع، صراعات العالم تجري الآن في مخيخي الصغير الذي لا يتجاوز وزنه 1400 غرام، الألوان صارت تشبه بعضها مهما لونت من لوحات لا تتغير النتيجة الشاحبة.. كلها تحكي ذات القصة.. الضياع بين عثرات الماضي ومستقبل غير معروف الملامح، و بكل لحظة تزيد من عمري يتسارع العد العكسي لحياتي البائسة، حياة بلا حاضر، تغشاها الكآبة والاستسلام للاشيء، حتى الأحلام البسيطة خُنتها خشية أن أعيش وهم تحقيقها.

هكذا تبدو حياة البائسين من الداخل، لحظات احتضار متتالية، قد تكون أنت هذا الشخص، ربما لست الآن، لكني أفترض أنك قد مررت من هذا الحال، إن لم تكن ستمر، إنها الحياة يا صديق.

جعلتني تلك الأيام أفكر جاهدة أن أجد مخرجاً من هذا العالم الضيق الأفق، فهل يا تراني أكون نجحت في ذلك؟

ربما.. أظنني نجحت في أن أُلغي كل صراعاتي الداخلية، أن أكون داخلي وحدي تماماً؛ حيث لا أصوات متناثرة، لا شجارات بالية؛ حيث الرضا والأمل والنور المنبثق من مرأى عيني، أن أكون على أتم الاستعداد بأن أعطي وأتلقى كل ما هو جميل في هذا العالم.

تعلمت أن الحياة ما هي إلا لحظة.. لحظة حب، استسلام، عبور، أمل، امتنان، قلق، ضياع، شكر، ألم، صلاة، عصيان، فرح، تعلم، نجاح.

اللحظة تليها اللحظة، فإما أن تعيشها بكل ما فيها أو أن تخسرها كلياً، لن تغير الماضي ولن تستطيع أن تتجاوز اللحظة التي أنت فيها الآن إلا بعيشها بحلوها ومرها، كل ما تستطيع فعله في حياتك، يكون في هذه اللحظة، فكلما كان عملك متقناً كلما هيأت أساساً متيناً للحظة التي تليها، تستطيع أن تخطط لحياتك كيفما تشاء، لكن لا تقع في فخ النهاية، فليس الوصول مهما بقدر أهمية الاستمتاع بالرحلة، فكل ما هو مطلوب منك هو السعي وليس النتيجة، الرازق هو الله، يقول الحق سبحانه في الحديث القدسي: “يا بن آدم، لا تطلب مني رزق غد؛ لأني لم أطالبك بعمل غد”.

أتذكر جيداً كلام إيكارت تول؛ حيث قال: “أحياناً أقول إن أعظم إنجازاتي في الحياة أنني لم أعد أحتاج للتفكير طوال الوقت”.. إن أكثر ما يقتل اللحظة هو كثرة التفكير؛ لأنه طالما أنت تفكر فإنك لست حاضراً بل انتقلت للتفكير فيما كان أو ما سيكون أو في أي شيء يبعد اهتمامك عن اللحظة، مما يسبب اللاإنجاز والشرود، فكرت في أكثر مرحلة نكون فيها في قمة الوعي باللحظة فوجدت الصلاة!

لو استطعنا تحقيق الحضور خمس مرات في اليوم لمدة دقائق فسنكون حينها وصلنا إلى مرحلة يسهل علينا فيها الوعي والتحرر من التفكير.. الخشوع في الصلاة هو حالة من الحضور.. تتخلى فيها عن التفكير مستمتعاً بجمالية عبوديتك لله.

يقول الله -عز وجل- في سورة المؤمنون: “قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون”، ربط الصلاة هنا بالفلاح هو أمر مهم وجب الانتباه إليه، لم يكن أمراً اعتباطياً ، حاشاه رب العالمين.

وضع لنا الحياة ودستورها، كل مقدر بقدره، الفلاح هو نجاح الدارين فلا تنسَ صلاتك، أعطِ روحك حقها.

تعلمت أن القلق سُم قاتل، كل لحظة تمر وأنا قلقة تجر الهلاك نحوي، فتفاوضت معه كمسجون يرجو خلاصه، علّي أجد السبيل، سألت نفسي كيف سأنجو؟ بحثت فوجدت كتاب “دع القلق وابدأ الحياة” لديل كارنيغي هذا الكتاب غير في مفاهيمي الكثير، جعلني أدرك حقاً عمق وشُدة ظلمة الجحر الذي انزويت فيه، فكما خرجت أنا منه، أخرج أنت يا من تحتضر؟ اسأل نفسك: ما الخطر الذي يقلقك؟ قيّمه جيداً.. صحيح أنهم لم يعلمونا في مدارسنا كيف نقيم فشلنا وكيف نستفيد منه، إنه شيء يشبه بلع الطعام تتعلمه بنفسك، فتعلم بقدر ما استطعت.

بعد انتهائك من تقييم وضعك تقبل كل احتمال يمكن أن يحصل ، ارضَ به حق الرضا، لا تكن كمن جحد بنعم الله عليه وكفر بها، تأمل هباته لك، لا تيأس من رحمة الله وشكره على ما هداك إليه، فلم تكن السعادة يوماً نتاجاً عن ملذات الحياة وزخارفها، بل هي قرار داخلي عميق بينك وبين نفسك أن تسعد رغماً عن الظروف ومجريات الحياة.

اعلم جيداً أنه مهما كبر همك فالفرج قريب حتمي، استفق من غيبوبتك وأنقذ ما يمكن إنقاذه من ذاك الركام.

لا أدري حجم مصيبتك التي تظلم أيامك، ولا يهمني ذلك، ما يهمني هو أنك قادر على أن تخرج منها بأقل الخسائر، فقط حين تنزع عباءة المظلوم المقهور وتعود منتصراً لذاتك كما تستحق حقاً.

توكل على الله حق توكلك لن تخيب أبداً، وتذكر دائماً قول الله تعالى: “ومن يتوكل على الله فهو حسبه” ،”الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم”، تذكر دائماً أنه ما زال لديك الكثير لتعطي مهما كنت منهكاً بجراحك.

احذر جيداً يا صديق من أن تقارن وضعك بوضع غيرك ممن تراهم في الأعلى يسطعون، يملكون كل ما تمنيته، سعداء أصحاء، أغنياء، ناجحون.. أنت رأيت اللوحة (النتيجة) ولم ترَ مزج الألوان ولا نوع الفرشاة ولا وزرته المتسخة ولا لوحاته الفاشلة ولا للحظات إحباطه وقلّة عزيمته واستسلامه ولا وقته الضائع ولا وجهه الشاحب ولا شكله الفوضوي ولا الجهد الذي بذله ليصله الإلهام ليس سهلاً، لا تنخدع، فالأمر ليس بسيطاً أبداً، مجرد أن يحافظ المرء على الشغف من أجل حلمه البراق، ليس سهلاً أبداً لولا البذل والصبر ومجاهدة النفس.

لا تعجز أرجوك، المزيد من الصبر يكفي، لا تتوقف في المنتصف، يمكن أن تصعد درجاً في يوم واحد وتظل لسنة تثابر لتخطو إلى الدرج الذي يليه، المهم أن لا توقف المسير، فالموازين ليست نفسها، ولا يمكنك المقارنة أو التقليد، لن تصل بنفس الوقت، ولن تجد نفس المصاعب ولا الفضائل، وإن توحد الهدف.

فـ”لا تمت قبل أن تموت”، فأن تحيا دون عيش الحياة هو موت أيضاً.

1xbet casino siteleri bahis siteleri