شهوة الكلام…

يقول بعض الحكماء: إذا اشتهيت الكلامَ فاصمت.

لعلك حينما تأخذ بين يديك بعض مُذكراتك المدرسية من زمن الطفولة، أو صورتك القديمة، فإنك غالباً ما تنخرط في موجة شديدة من الضحك والسخرية، لا شيء يبعث على الضحك سوى أنك تنظر وراءك في مرآة سنين عمرك الفارطة؛ كم كانت أفكارك سخيفة ونظرتك للأمور ساذجة وبسيطة، وكم كانت تلك الوقفة المتصنعة العسكرية وذاك اللباس الغريب في الصورة أشبه بلباس المهرجين!

لكن سرعان ما ترجع إلى رُشدك وتبرر كل ذلك بأنه مرحلة كان من اللازم العبور من خلالها في الحياة نحو الضفة الأخرى.

ربما يبدو هذا طبيعياً وعادياً فيما بين المرحلتين من العمر، إذ لا أحد يبقى في مرحلة الطفولة الذهنية حتى لو لم يحظ بأي تعليم أو تأهيل بعد ذلك؛ تكفي دروس الحياة ومواقفها لإخراج المرء من هذا السبات الجميل.

الغريب في الأمر أن من لم تنقطع به السبل في الحياة ولم تقعد به حبال الكسل والخمول عن استكمال هذا المسار التكاملي، سيعيش نفس الموقف من الضحك والسخرية مما كان عليه بين الفينة والأخرى.

سيلاحظ أن آراء ومواقف كان يتبناها في السابق ـ قبل عامٍ أو عامين ربما ـ باعتبارها حقائق لا غبار عليها صارت اليوم محض مثاليات أو أوهام أبعد ما تكون عن الحقيقة.

حين يرى أشخاصاً كان يضعهم في قمة المثالية والقدوة قد صاروا الآن هناك في الحضيض العميق جداً.

وبتكرار الأمر بتعاقب السنين يصل إلى مرحلة غريبة من “اللاأدرية” في الحياة فيبدأ قاموسه اللغوي في حذف الألفاظ الجازمة والكليات القطعية، من قبيل؛ كل الناس كذا، كل ما يفعله فلان كذا…الخ


ويعوضها بمصطلحات جزئية احتياطية، تضع دائماً حيزاً مناسباً ومسافة آمنة للتراجع واعتبار الرأي الآخر، من قبيل؛ في الغالب ـ عموماً ـ أحياناً…الخ

وقد يؤدي ذلك إلى نوع من العدمية في الرأي قد يَخَالها البعضُ ـ (ها أنا أستعملها) ـ

جهلاً أو عُقماً في التفكير والفهم، وهي بالعكس تماماً.

مقالات مرتبطة

يتضح ذلك جلياً حين يكون النقاش جاداً وحاداً يستعرض فيه المتكلم أدلة كل طرف من النقيضين حتى يبْهَتَ الذي يناقشه.

تَذكر الروايات أن إمام المذهب مالك ابن أنس سُئِل عن ثمانٍ وأربعين مسألةً فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري.

لم يكن الباعث الحقيقي على هذه اللاأدرية هو الجهل بحالٍ، وإنما كان ذلك لوجود آراءٍ ذات أدلة مقبولةٍ صحيحةٍ في كلا الطرفين.

إنها حصافة رأي واحتياطٌ وبعدٌ عن الاستهانة بأيِّ رأي ذي قيمة علمية مقبولة.

هذا في الحقيقة لا يكون منتظراً من كثير مما يُكتَبُ ويُنشَر اليوم، ذاك أشبه بحال المحللين السياسيين الذين تستضيفهم القنوات عقب دقائق معدودة من وقوع حادثٍ ما…

قد يكون ذلك قبل أن تصل الشرطة إلى عين المكان!

كل ما يقوله المحلل أثناء المقابلة هو محض تكهنات وتَخَرُّصَاتٍ لا غاية وراءها سوى استنفاذ ساعات الأخبار أو ملء بضعة سنتميترات من جريدة يومية!

تلك هي شهوة الكلام الفتاكة؛ تحول الإنسان من كائن عاقل مفكر إلى ظاهرة صوتية.

إن جنون الشاعرية يقول على لسان نزار قباني:

أَحْرَقْتُ مِنْ خَلْفِي جَمِيعَ مَرَاكِبِي إِنَّ الْهَـــوَى أَلَّا يَكُـــونَ إِيَــابُ
ولسان الحكمة والعقل على لسان أبي حاتم الرازي يقول:
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالواْ

ليست الغاية من هذا أن يصير الإنسان كائنًا أخرس صامتاً، لكن المقولة السائدة على أن أعقل الناس هو أكثرهم صمتاً وأقلهم كلاماً.

لن أزيد على هذه السطور أكثر وإن كان الموضوع أطول، حتى لا أرجع على مضمون الكلام بالنقض والبطلان.