قراءة في كتاب: طوق الحمامة في الأُلفَةِ والأُلَّاف لابن حزم الأندلسي

1٬694

لعل من مفيد القول ومجد النفع أن نساهم بكلمة في موضوع كثير التداول، كثيف التدوين، مختلف الأذواق ومتعدد الآفاق. كان وما برح هواية للشعراء وفنا للبلغاء، واستمدادا للخطباء، وإطرابا للعشاق؛ إذ القلوب تهوى كل رنة تهيم بها فوق سحاب الوجود، وتخلصها من الأغلال والقيود، ومسايرة لموضوعات الحال وما يقتضي المقام أحببنا القيام بمحاولة نرمي من خلالها تسليط بعض الضوء على جانب مما يزخر به تراثنا الحضاري وموروثنا الثقافي، من موضوعات متنوعة ومجالات متعددة، تؤكد عموميته وتقر شموليته.
والعناية الأدبية بظاهرة الحب ليست أمرا مستحدثا ولا موضوعا مستجدا، بل إننا نجد أعمالا أدبية كثيرة ودواوين شعرية ثرية قد وسمت بنكهته، واصطبغت بلونه، وزخرفت بأثره، حتى ليعجب المرء من ضخامة حجمها، وعميق معانيها، وأصالة مؤلفيها، وقد اخترنا في هذا المقام أنموذجا تراثيا عريقا، يستمد أصالته من صاحب مقدام وهو: الظاهري، الإمام ذو الفقه والمعارف، الفقيه الحافظ، صاحب التصانيف المتعددة…ابن حزم الأندلسي الأموي.

ألف ابن حزم الظاهري رسالته هاته استجابة لسؤال صديق عزيز عليه من منطقة المرية (جنوب شرق الأندلس)، كان قد طلب منه أن يصنف له رسالة في الحب ومعانيه وأسبابه وأغراضه، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة، استجابة له دَوّن رسالة في الحب مستفيدا من تجربته الشخصية ومن تجارب الآخرين في المجال، وأغلب الظن أن عمره آنذاك كان يناهز أربعا وثلاثين سنة.

استغل ابن حزم المشاعر والعواطف الغريزية الإنسانية، ليبرزها لنا منقاة متعددة الأصناف، فهو يعرض صفات الحبيب المثالي على ضوء العادات والقيم والأخلاق والدين، ويستقذر من الحبيب المجان، السلوك الدنيء البعيد عن رضا الله، وكأنه في عمله يُقوّم ميولنا وأهواءنا في الحب والعشق ليسيرها في الطريق الصحيح الذي يؤدي إلى اللقاء الجليل، رافعا من فلسفة الحب إلى مقام محمود.

اعتلى ابن حزم في كتابه منبرا للوعظ والإرشاد، وتبيانا للمعرفة وسبر أغوار النفوس وغرائزها، بعد ثمرة تجربة ومعاناة ومعالجة، فقد عدد أخلاق النساء المحمودة والمذمومة وميولاتهن المختلفة، بعد أن عاش في كنفهن صبيا، وعاشرهن شابا، وارتوى من أخبارهن وقصصهن بعد حيازة ثقتهن به، وقارن طبائعهن بأخلاق الرجال وميولهم واهتمامهم وحرصهم وإيثارهم، الأمر الذي يدل على سعة خبرته بنيات النساء والرجال وطبائعها وعواطفها ومعتقداتها، وهو أمر يعلنه صراحة بقوله: “ولقد اطلعت من سر معتقد الرجال والنساء على أمر عظيم.”

واللافت للنظر أنه وقف وقفة أطول عند خبرته بالنساء وأحوالهن فقال: “ولقد شاهدت النساء، وعلمت أسرارهن، ما لا يكاد يعلمه غيري، لأني ربيت في حجورهن ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهم. فلم أزل باحثا عن أخبارهن، كاشفا عن أسرارهن، وكن قد أنسن مني بكتمان، فكن يطلعنني على غوامض أمورهن، ولولا أن أكون منبها على عورات يستعاذ بالله منها لأوردت من تنبههن في السر، ومكرهن في، عجائب تذهل الألباب.

هذا وينطوي الكتاب على إشارات تاريخية كثيرة، وتفسيرات نفسية متعددة، فالقارئ يبصر تارة ابن حزم مؤرخا، وعالم نفس مرة أخرى، كل ذلك بأسلوب مشرق ولغة بيانية صافية لا تخلو من مصطلحات المتكلمين والفقهاء.

ثم سلك ابن حزم منهجا علميا بديعا في تقسيم رسالته، إذ لولا خصوصية المقام وضيق الحال لاستطردنا في الكلام عنه، فقد قسم رسالته إلى ثلاثين بابا، منها في أصول الحب عشرة، ومنها في أعراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة اثنا عشر بابا، ومنها الآفات الداخلة على الحب وهي ستة، ومن هذه الأبواب الستة بابان كل واحد منهما ضد لآخر، ومنها أربعة أبواب لا ضد لمعانيها في الحب.

أن يعالج فنان الحب في كلمات وأنغام أو رسوم، فذلك عهد الإنسانية منذ نشوء الفن وترعرع وحي الجمال في كنفه. أما أن يتناول رجل سياسة وفقه وقانون مثل ابن حزم موضوع الحب فلا ريب أن ذلك يثير سؤالا: من أي جانب تناول ابن حزم الحب؟ وهل يعالج الموضوع من زاوية فقهية أو قانونية؟ إلا أن ابن حزم ينطلق في طوق الحمامة بتحليل الحب تحليلا نفسيا، يضاهي في منهجه ونتائجه أحدث ما توصل إليه علم النفس المعاصر من معطيات في دراسة ظاهرة الحب؛ إذ يقول في مطلع كتابه: “الحب -أعزك الله- أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل.”

ويلاحظ كذلك أن ابن حزم عندما يرسم شخصية أو يعرض فكرة أو يعالج مسألة يستشهد بما خبره أو سمعه ووثق به. فلقد كان لابن حزم مصادره ومنهجه، حيث اقتصر على المشاهدة والمعاينة والتجربة، ثم ما صح عنده مما نقله إليه الثقات.

إن هذه الكتب المحطات لا بد من العودة إليها وإحيائها لإظهار الجانب الغني من التراث الواسع والممتد والمتعدد، لرفع الحجب التي غل بها -التراث- فكرست صورة جافة مقلوبة عنه منعت كل اتصال واستمرارية معه.

ابن حزم بحر خبير…لكن لا تثقوا به أكثر من قلوبكم أيها العشاق!

1xbet casino siteleri bahis siteleri