كل إناء بما فيه ينضح

عنوان شائع التداول، مبتذل الحاضر، رفيع الماضي، ممتد المستقبل، يرمز لأصالة اللسان العربي، صاحب خصيصة الاختزال ومزية الاستحسان…أطلق السلف على الحكم المختصرة المفيدة ما سموه بجوامع الكلم، ولذلك قالوا: ’’إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب‘‘ حتى بالغوا في هذا ليقول شاعرهم: ’’إذا نطقت فلا مكثارا‘‘. لكن، لندع الدرس اللغوي في هذا المقام ولنحاول كشف بعض معانيه الدقيقة، والدخول في أغواره العميقة علنا نحظى ببعض فوائده السديدة.

إنه لمن الحنكة أن يستعير العربي لفظة “إناء” للتعبير عن مادية بني البشر، رافضا بذلك كل الأطروحات المستقلبية السارترية والفوكاوية العدمية والمادية، وكأنه يحاول قول: ’’أيها الطيني إياك وجحد أصلك”، فقد تعمد تقديم المفعول به على الفعل للتنبيه ثم الإشارة، بل لتحذير الفرد العربي من الانسلاخ عن خلفيته الأساسية وهويته الحضارية الدافعة إلى الشهود الحضاري.

إن الشاهد الذي نسعى للخوض في غماره ونرجو التوفيق في بيانه هو تلك اللطافة الخفية المتمثلة في مفردة “الامتلاء”، ومن تم، جاز لنا أن نتساءل عن كيفية ملء فراغه (الإناء)! وهل من سبيل إلى بلوغ سعته؟

مقالات مرتبطة

لطالما كانت الظاهرة الإنسانية محكومة بنظام باطني دقيق يكيف كل تمظهراتها الجسدية الحياتية واليومية، ويعمل على برمجة جل جوارحها الكينونية، في حركة اطرادية منضبطة تستمد معلوماتها التقنية والتوجيهية من رزمة الملفات القبلية المكتسبة والمخزونة داخل الوعاء البشري، فصاحب الحكمة العربية يدعونا صوابا إلى ضرورة الانتقاء الأخلاقي والثقافي وسط هذا الفائض من الكم المعرفي والموروث المناقبي المختزل داخل المحيط الاجتماعي، الحاكم للفرد بكل ما يحمله من أفكار ميتة وجراثيم سامة كانت، ولا زالت، وستظل تنخر مخيلة الشاب العربي حتى إذا ما تآكلت هويته الذاتية أخذت أسونة سوائله العفنة في نضح عموم الألفاظ الذميمة والأفعال المشينة في سيميائية صورية وتفاعلية.

فمتى عمل العربي على انتقاء طعامه وشراب وعائه وأدى مهمته، ودفع دين إنسانيته ووطنه، فكان أنموذجا باعثا حيا دافعا من حوله إلى الاحتذاء والاقتداء، وحيثما أعرض واعتبط اختياره كدس وراكم داخل إنائه، فأصبح عبد نفسه وذاته، عاجزا عن تمثيل دوره، وقد قال تعالى: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20].

لقد أصبح من الضروريات الحياتية المعاصرة أن يستعين المرء بهذا المفتاح العربي العتيق -الانتقاء- الذي أكله الصدأ في طريقه وأعماله ومزاولاته، حيثما تنقل وارتحل، والواجب حتما، في عصر تتضارب داخله القيم وتتنازع ضمنه المبادئ بين المحلية والعالمية، ثم تتصارع فيما بينها لحجز مكان داخل هذا الكائن الأجوف؛ فالأولى تتكئ على كل ما يدخل ضمن دائرة العادات بما لها وما عليها من اتباعية وكلاسكية، والأخرى تتوسد على كل مستحدث ومستجد يندرج ضمن خانة الحداثة بما لها وما عليها من إغرائية وتأليبية، وبين هذا وذاك، تقف الحكمة العربية منارة محايدة تدعو الفرد للتريث قبل الإقدام على مزج الزيت بالماء، أو الخل مع الحليب.

1xbet casino siteleri bahis siteleri