كيف تغيرت نفس البعض تجاه فلسطين ليرحبوا بالتطبيع فجأة!

قبل أن تبدأ موجات التطبيع بإغراق العالم العربي في وحلها، وقبل أن تجرؤ أية دولة عربية على الاعتراف علنا بعلاقتها مع الكيان الصهيوني المغتصب، بل وقبل ذلك بكثير، يوم أن كان هذا الجيل في أولى سنوات طفولته. كان من المخجل أن تفكر دولة مجرد تفكير في الإعلان عن علاقة ولو غير رسمية مع إسرائيل، فما الذي تغير الآن؟

لا يزال أغلبنا يتذكر كيف غرست فينا قيم تقديس فلسطين وكل ما يخصها، وكيف علمونا أن نستنكر المجازر التي تحدث على أيدي الصهاينة في حق إخوتنا بكل وسيلة ممكنة ولو كان استنكارا لا صدى له. كل الأناشيد التي حفظناها وكل المسرحيات التي أديناها عن كم المعاناة التي عاشتها فلسطين ما قبل التقسيم وبعده لا تزال محفورة في قلوبنا، ولا أظنها تمحى بمجرد محاولة إسرائيل وضع بعض المساحيق مستعينة ببعض خبراء التجميل العرب لإخفاء بشاعتها. فكيف وصل الأمر بالبعض من أبناء جلدتنا أن ينفضوا من ذاكرتهم كل ما توصلوا به من صور للدم الذي سال من أطفال وأناس عزل أبرياء، حتى يرحبوا بالتطبيع كأنه تطبيع مع سارق أرض لا غير.

كلا، إنها سعادة بربط علاقات مع سفاح العصر الذي قطع رقاب كل منتفض مدافع عن أرضه فدعونا لا ننسى هذا. دعونا نفكر يا ترى كيف يكون موقف امرئ دخل لص بيته بالقوة وقتل ما قتل من عائلته، ولكن، لأنه شخص ذو نفوذ وله من أصحاب السلطة من يدافع عنه عرف كيف ينجو بفعلته وظل قائما بالبيت رغما عن أنف صاحبه، فتعاطف معه الكثيرون من جيران وأصدقاء ولكن لا يملكون أن يلوذوا عنه بشيء، فاستولى على جزء من البيت قانونيا، لأنه يمتلك وثائق تثبت أحقية أحد أجداده في الأرض التي بني عليها المنزل. ومع مرور السنين اعتاد أولئك المتعاطفون رؤيته يصول ويجول في البيت، فبعد أن كانوا يستنكرون فعلته باتوا يعتادون شيئا فشيئا، والأدهى والأمر أن منهم من جعل منه صديقا مقربا على العلن وعلى مرأى من صاحب البيت، ناسين كل ما فات كأنه لم يكن، ويا ليت ذاك الذي كان من ظلم وعدوان قد توقف، بل هو على ما كان عليه سابقا بل وأسوأ.

إن مشكلة البعض، رؤيتهم أن تَبَنِّي القضية الفلسطينية معناه تقديس الفلسطينيين، فإن أخطأ الفلسطيني في حقهم بأي شكل من الأشكال فهذا دافع كاف للتخلي عن دعمه للقضية. غير واعين أولا أنها مسألة عقيدة، فما من مسلم مؤمن بقضاياه بكل يقين ومنطق قبل أي عاطفة يعرف أن القدس والمسجد الأقصى من المقدسات الإسلامية، ولا يجب أن تهون في عيوننا وأن ندافع عنها بكل ما أوتينا، وليست مسألة مجاملات للأشقاء الفلسطينيين فقط. وثانيا فأي إنسان يحمل ذرة رحمة في قلبه لا يرضى أن يعترف بقيام كيان على جثث ودماء الأبرياء، أي حق لدولة تريد نصيبها في أرض وتسعى لذلك بالقتل والتهجير وإخراج أصحاب أرض من أرضهم؟ بأي منطق يجري هذا؟ ألم يعد في الإنسان مثقال ذرة من إنسانية حتى يمنع قلبه من التعاطف مع الضحية؟ حتى اليهود، منهم من يتبرأ مما اقترفه الصهاينة، لأنهم من بني آدم وضميرهم حي لا يخمد ويعرفون الحق من الباطل.

مقالات مرتبطة

قد نتفهم ونقبل مرغمين بتطبيع العلاقات بين الدول، إذ لا حول لنا ولا قوة في تغيير شيء من ذلك؛ ولأن أغلبنا يعلم مسبقا وجود علاقات تحت الطاولة بين الدول العربية وإسرائيل، وما أقبلوا عليه مؤخرا مجرد إعلان لما كان، غير مبالين برفض الشعوب وذاك مما لا ينظر له أصلا فهو عادي متعود. لكن الغرابة في ترحيب بعض الفئات من الشعب، فهل هو نقص وعي بكل الجرائم بحق العرب والمسلمين بل وبكل من يهتف بعدالة القضية الفلسطينية؟ هل النكسة العصرية هي التعامل مع إسرائيل كأنها لم تقترف ذنبا؟ وكأنها الدولة المسالمة التي تسعى للعيش بكل تآلف مع الفلسطينيين.

هل سيكثر مثل هؤلاء بالظهور فتزيد الحسرة على ما وصلنا إليه؟ أليس يكفينا الذل والهوان الذي تغرق فيه الأمة حتى تظهر مثل هذه الأصوات لتجعل ما هو غير طبيعي طبيعيا؟ يكفي مشاهدة مجزرة قتل الطفل الشهيد محمد الدرة مرة واحدة ويستيقظ ضمير أكثر الناس شرا ليلعن إسرائيل ألف مرة، فكيف بأناس أصلا سريرتهم طيبة، هذه الصورة وغيرها بقيت قابعة في أذهان الصغار قبل الكبار الذين عايشوا تلك الفترة، كأطفال كنا نندهش حينها لمرأى آخرين بمثل سننا يواجهون عدوا لا يرأف ببراءتهم، قصصهم رويت لكي لا تنسى، نقلت لنا مجلة العربي الصغير وبراعم الإيمان حينها من حكايهم الكثير وهم يجابهون الأخطار بكل شجاعة تتخطى أعمارهم؛ أطفال الحجارة الذين لم يخشوا كبر الدبابات التي يرشقونها، والطفل الذي استشهد بعد أن دهسته دبابة العدو وهو يقذفها بحجر جهلا منه بخطورة ما هو مقدم عليه وغيرهم الكثير من الضحايا المدنيين والعدد في ازدياد مادامت إسرائيل قائمة.

إن المعركة اليوم بالذات معركة خلق وعي بخطورة ما نحن مقبلون عليه من خطر محدق بكل الدول العربية، فليس ببعيد أن تطمع في هذه الدول أيضا، والله لو أتيحت لها الفرصة لما ترددت لحظة في احتلالها. فمحاولات إسرائيل للتطبيع ليس فقط لخلق علاقات اقتصادية تجارية وغيرها، هدفها أيضا حصد القبول الشعبي في المنطقة بدءا بالحكام وانتهاء بالشعب، وإلا لما ساهم الإعلام في محاولة طمس كل ما اقترفته وتزيينها للمواطن العربي حتى تسلم نفسها من الزوال في المستقبل بتأييد الكل لها. إسرائيل تسعى لخلق مسلم عربي جديد برؤية جديدة تجاه إسرائيل، فإن استمر الوضع على ما هو عليه، لا عجب أن الأجيال القادمة لن ترَ في زيارة إسرائيل لقضاء عطلة عيبا. لذلك، تقع المهمة الآن على عاتق هذا الجيل لخلق اللبنة الأساسية ليأتي آخر ليحمل نفس القضية حتى يشاء الله بعودة مجد تليد.

1xbet casino siteleri bahis siteleri