لكي تفهموا الانطوائيين… لأني منهم!

يوجد صنف من الناس يسمون الانطوائيين، ونسميهم عندنا في المغرب “حشوميين” أو “حدوديين”، وأحيانا يسميهم بعض الناس “معقدين”. والواقع أن هذا الصنف من الناس ليسوا “حشوميين” ولا “حدوديين”، فضلا عن أن يكونوا “معقدين”. بل هم أناس طبيعيون يشكلون 30% من مجموع الناس.

الانطوائي يحمل الفوضى العارمة في داخله حيث لا يمكن لأحد رؤيتها أو حتى الإحساس بها… هو شخص يحب أن يغوص دوما في عوالمه الباطنية التي لا طالما تكون مصدر إلهامه وموطنه الأصلي، ويستمتع بالصمت… مزاجه الشخصي لا يتلاءم مع كثرة الهرج والمرج. قمة سعادته حين يكون وحيدا في مكان منعزل، يسود فيه الصمت. الانطوائي يبتعد برغبة منه عن الشوشرة الخارجية التي تحول بينه وبين حواره الدائم مع نفسه … هو ذلك الشخص الذي لا يحب الاجتماعات، وإذا اضطر إلى حضورها فإنه لا يتحدث، لا لأنه لا يملك ما يقول حول موضوع النقاش، أو لأنه يستحيي. بل لأنه، أساسا، يفضل معالجة الموضوع من كل زواياه، ومقارنة الآراء بعضها ببعض. ويعتقد دائما، في خاصة نفسه، أنه ما يزال بحاجة إلى مزيد من المعطيات حتى يستطيع تكوين رأي وجيه حول المسألة، وبالتالي تكون مداخلته في أي اجتماع في محلها. لأجل هذا، من الصعب على الإنسان الانطوائي أن يقرر بسرعة أو أن يتحدث أولا!

الإنسان الانطوائي يستمع بعينيه ويرى بحدسه، يتميز بدقة الملاحظة، يلاحظ تفاصيل وجوه الناس وحركاتهم وسكناتهم، ويحلل ما يقولون، ومتى يتكلمون، ومتى يسكتون. ويحاول أن يربط ما يقولونه الآن مع ما كانوا يقولونه من قبل… الانطوائي يلاحظ كيف ينظر الناس بعضهم إلى بعض، وربما صرف اهتمامه أيضا تحليل لغة الجسد، والدوافع النفسية لاختيار نوع من اللباس ولونه، وأشياء أخرى لأن تحليل الأشخاص ودوافع كلامهم ومحاولة فهم نفسيتهم أهم بالنسبة للانطوائي مما يقولونه… كل هذا يجعل هؤلاء الانطوائيين يتمتعون بذكاء عاطفي كبير.

إن الشخص الانطوائي غالبا ما يعتذر عن حضور المناسبات والأعراس والحفلات واللقاءات العائلية أو ينصرف مبكرا في حالة كان مضطرا للحضور؛ ذلك أن دماغه حساس جدا للمنبهات الجديدة ويميل إلى الإفراط في تقدير الأمور “Overstimulation”، لذلك يحب أن يفعل كل شيء بوتيرة منخفضة، وفي جو يمتلئ هدوءا وسكينة… لأجل ذلك، تجد الانطوائيَّ حينما يتحدث أمام الناس، أو يصعد إلى منصة، أو يُطلَب منه الحديث، يرتبك غاية الارتباك في البداية ليس خجلا أو حياء، بل ذلك محاولة من دماغه للتكيف مع الكم الهائل من الإشارات الجديدة التي تأتيه دفعةً واحدة… الانطوائي يحب بل يحتاج إلى مخالطة الناس تماما كما يحتاج إلى ذلك الشخص المنفتح، لكنه يفضل ذلك إما على جرعات قصيرة أو مع أشخاص يعرفهم جيداً.
ولأن الرتابة و الوحدة و الحياة الهادئة – الانطواء بشكل عام – يحفز على الإبداع فإنه من الشائع وجود مفكرين وفلاسفة وكتاب ومؤلفين وفنانين ومخرجين ومصورين يتمتعون بشخصية انطوائية ولذلك تجدهم يفضلون العزلة والإنتاج الفكري والأدبي، أكثر من ميلهم إلى إلقاء المحاضرات وحضور اللقاءات… في نفس الوقت، أن يكون المرء إنسانا انطوائيا يشكل محنةٌ حقيقية لأن الإشارات التي لا يلتفت إليها أحد عادة، يتعامل معها الشخص الانطوائي بحساسية كبيرة، يقوم بتحليلها وربط بعضها ببعض. وإذا كان منشغلا بغيرها أجلها إلى وقت لاحق. فهو، على سبيل المثال، حين يتحدث في جماعة يستطيع بحسه الفاحص أن يعرف المتفقين من المختلفين معه، ومن يتابع كلامه بإمعان، ومَن ليسوا كذلك. وهو يتمتع بذاكرة جيدة؛ حيث يستطيع أن يتذكر ردود أفعال الناس حتى ولو مرَّ عليها وقت طويل، ويستثمر ذلك من أجل بناء رأي يناسب الجميع.

إن هذا الذكاء العاطفي هو ما يجعل من هؤلاء الانطوائيين قادة في محيطهم؛ حيث يتميزون بالوسطية والاتزان في تقدير الأمور أمثال غاندي وروزفيلت وغيرهما.
غير أنه من الصعب على الانطوائي أن يكون قائدا سياسيا؛ لأنه السياسة تحتاج إلى الخطابة والبهرجة واللغة الخشبية والنفس الطويل خلال الاجتماعات الماراطونية المتعبة… السياسة تحتاج إلى الكلام الكثير، كائنا ما كان مضمونه؛ إذ المهم في السياسة أن يكون المرء خطيبا مفوها، يجيد دغدغة عواطف الجماهير، وأن يكون شخصيةً منبسطة ومنفتحة تستطيع التكيف، بسرعة، مع كل الوضعيات، وأن تحسن الماركوتينغ السياسي أو الدعاية السياسية. وذلك يقتضي، من بين ما يقتضيه، أن يكون حظ المرء من الصفاقة كبيرا. وحال الانطوائيين، كما تقدم، بخلاف ذلك.
الشخص الانطوائي، بالذات، هو ذلك الشخص الذي تجده يقرأ قصةً، بعيدا عن أصحابه الذين يلهون بلعب الأوراق أو كرة القدم. أصدقاء الانطوائيين الحقيقيين يعدون على رؤوس الأصابع لأنهم لا يستطيعون الاستمرار في علاقات مليئة بالزيف والمجاملة كما قال عنهم المهاتما غاندي الذي كان انطوائيا كبيرا: “إذا دخلت علاقة مع شخص انطوائي فلك أن تفخر بذلك، فمثل هؤلاء لا يسمحون لكل من يصادفونه بدخول حياتهم” فهم ينتقون مقربيهم بعناية شديدة مع التأكيد على احترام مساحة الخصوصية التي يشحنوا فيها بطاريات نفوسهم.

غالبا ما يكتفي الانطوائي بصديق واحد ووحيد، في الكثير من الأحيان يكون انطوائيا مثله، يخرجان معا ويدخلان معا، وجل ما يفعلانه لا يخرج عن مشاهدة الأفلام أو القراءة أو الرسم أو الكتابة، ويفضلان أن يقوما بأنشطتهما في صمت، في مكان لا يستنفر دماغهما.
إن الانطوائي لو أردنا اختصار وصفه لقلنا: إنه شخص مهتم بالإشارات التي تأتيه من باطنه، سواء كانت أفكارا أو حواسا. والانطوائي، كي يحلل الإشارات الخارجية، يحتاج إلى بيئة تتميز بالهدوء والسكون، أو تكون تلك الإشارات منظمة، فإذا كانت مبعثرة فلا بد له من وقت كافٍ وهدوء للتفكير فيها، وتنظيمها وتخزينها في وعيه إذا كان يجدها صالحة لذلك.

قبل أيام، زارني شخص، وأخبرني أن ابنه، البالغ من العمر ست عشرة سنة، معقد، وليس لديه أي أصدقاء، وهو لا يكاد يغادر المنزل، كلُّ ما يقوم به هو قراءة الكتب. أخبرني أنه ينوي أن يصْحبه لزيارة الطبيب النفسي. وحين التقيت ابنه وتحدثت إليه، وجدتُه في منتهى الذكاء، فقط هو شخص انطوائي مثل 30% من الناس، أي أنه لا يعاني من أي عقدة نفسية ولا يهرب من المواجهة وشخصيته ليست ضعيفة، وغاية ما في الأمر أنه لم يجد من يشاركه عوالمه الداخلية، ولم يجد من يشعر أنه يفهمه بالطريقة التي يريد.
إن الكثير من الانطوائيين لا يندمجون جيدا في المجتمع. وهم يفشلون في حياتهم الاجتماعية؛ لأن المجتمع يفرض على الإنسان، لكي ينجح، أن يحاكي نمط الشخصية الأساسية للمجتمع: أن يكون مهذارا ومنفتحا، ولديه حظ غير يسير من الصفاقة. وذلك يتنافى مع التركيبة البيولوجية والبيوكيميائية لدماغ الإنسان الانطوائي. ولهذا السبب، نجد أن الكثير من الفنانين عاشوا تجربة الفشل الدراسي أو المهني، قبل أن يتوجهوا إلى المجال التي يتناسب مع نمط شخصيتهم الانطوائية، فينجحون في هذا الأخير –الفن- نجاحا باهرا، ويُفرِغون فيه كل ما أوتوا من مواهب وقدرات.

في الأخير، أحب أن أوصي الجميع بقراءة هذا الكتاب الرائع، والذي بَيَّنتْ فيه، بتفصيل، سوزان كاين هذا النمط من الشخصية، وكلَّ ما يتعلق بها:
قوة الانطوائيين في عالم لا يكف عن الكلام – ‏the power of introverts in a world that can’t stop talking.
وهو الكتاب الذي قدمته لصاحبي، لعله يدرك أن ابنه ليس معقدا، وأنه ليس بحاجة إلى طبيب نفسي.

 

1xbet casino siteleri bahis siteleri