نحن والعمل .. وأشياء أخرى

مُدهشة هي الطريقة التي تتغير بها أولوياتنا في الحياة، ومذهلة تلك السرعة التي يحدث بها ذلك. لا يتطلب الأمر إلا يوما أو يومين حتى ينقلب كل شيء رأساً على عقب، وتتراجع قيمة الأشياء إلى أقل من الصفر. بدأتُ السنة الجديدة بطموحات كبيرة للغاية، وكنتُ أرى أنها قريبة جدا، وأنني ممسك بزمام الأمور، وكانت ثقتي في إمكان الإنجاز وافرةً بشكل كافٍ، كان كلُّ شيءٍ يسير وفقا للمخطط له، حتى نزَل هذا الفيروس اللعين ضيفاً ثقيلا علينا، ضيفا غير مرغوب فيه، فأربك كل شيء. ومع إقرار الحجر الصحي على المستوى الوطني، اضطررت إلى التعديل في برنامجي ومخططاتي، حيث برمجتُ أنشطةً جديدة تتلاءم مع الوضعية الجديدة، لكن وكأنه غاب عني أن أضع في حسباني أنني قد أصاب بدوري يوما ما، خاصة وأن طبيعة عملي تقتضي أن أتعامل مع الناس، المرضى منهم خاصة.

كأي شخصٍ بطموحاتٍ كبيرة، لا أنفكُّ أحاول أن أضاعف من مردوديتي وإنتاجيتي، مؤمّلا أن أضمن بذلك مستوى معيناً من الاستقرار المالي والاقتصادي والاجتماعي، أن أزيد من مستوى رفاهيتي وراحتي وحريتي، أن أُعدّد اختياراتي ما أمكن، وكان ذلك يأتي في مقدمة الأهداف. غير أن المرض دائماً ما يُعلم ويربي ويهذب، أصبحتُ الآن أرى ذلك كله غير ذي أهمية، صار استرجاعي لصحتي وعافيتي أهم ما في الدنيا. أن أجتمع بعائلتي وألاعب أولادي وأعانقهم أصبح مأملاً وأمراً لا يُقدَّر بثمن.

الآن، مرَّ ما يقرب من أسبوع في العزل الذي أفرضه ذاتيا على نفسي، أسبوع مرَّ كأنه يومٌ واحدٌ، لا لأنه كان سريع الانقضاء، بل لأنه متشابهة أيامُه. أقوم بنفس الأشياء كل يوم، الاستلقاء في الفراش، وإطالة التفكير في ما كان كيف كان، وما سيكون كيف ينبغي أن يكون. الأكثر صعوبة في هذا الروتين هو فقدان الاستمتاع بالأشياء، حتى الطعام أصبح بغير مذاق، فقدان الشعور بالإنجاز، فقدان التعلق بالأشياء. وكأنني بدأت أشعر أن العمل هو الذي كان يُعرّفني، هو ما يُعطيني هوّيتي. هل كان صدفةً أن كانت بطاقة التعريف الشخصية عندنا تتضمن مهنة الشخص؟ أم الأمر يعود إلى ثقافة العصر وعبادة العمل؟

ربما ليس غريبا أن أشعر بهذا الشعور، وأن أطرح هذه الأسئلة، فالقيمة التي أصبحت للعمل في عصرنا قد تعاظمت بشكل لافت، حتى أصبحت قيمة المرء تتحدد من قيمة العمل الذي يُمارسه: دكتور، طبيب، مهندس، أستاذ، وزير، مدير، مقاول، رجل أعمال […] واستبطان هذه الحقيقة هو ما يَجعل بعضَ الناس يتبرمون من عدم وصفهم بأوصافهم العلمية والمهنية، حيث لا يَقبلون أن تُطلق عليهم أسماؤهم مجردةً من تلك الإضافات والنعوت: الدكتور، الطبيب، المدير ! والأغرب مما سبق هو استدعاء أوصاف ونعوتٍ من الماضي في تعريف الشخص لم تعد قائمة، كقولهم: “وزير سابق”، و”الوزير الأسبق” ! وكأنّ تعريفه بالوزارة ــ ولو زالت ــ سيزيده قيمة ورفعةً في نظر الناس، وتجريده منها سيَنزل به دركاتٍ!

هل نحنُ هو ما نقوم به أو نملكه؟ أو نحن قيمةٌ مجردة لا تتأثر بهذه الأشياء كلها؟ قد لا يكون صعبا أن نجيب عن هذا السؤال؛ نحن نستمد قيمتنا من ذواتنا، فــ”الشخصُ غاية في ذاته”، على حد تعبير كــانط؛ هذه الإجابة التي سيُقدمها كل أحد. لكنّ ذلك في النهاية يظلُّ في دائرة ما يجبُ أن يكون، وإلا فالواقع يثبت أن الناس يتصرفون وكأنهم يستمدون قيمتهم مما يقومون به ومما يملكونه. أصبحت أفراحهم وأحزانهم رهينةً بإنجازاتهم وممتلكاتهم، حتى ثقتهم بأنفسهم يستمدونها من ممتلكاتهم، إذ أصبحت ثقة الشخص بنفسه تزداد طرديا مع حجم ممتلكاته. لذلك ليس عبثا أن تجد شخصاً فارغاً يتحدث في كل شيء، وعلى كل المنابر الإعلامية، فقط لأن رصيده في البنك تضخّم بشكل خرافي، وخاصةً حين يكونُ المتوقَّـع في حقه غير ذلك.

وهذا الأمر قد لا يختاره الشخص بنفسه، فحتى حين يحاول أحدهم أن لا يربط بين قيمته كشخص وبين مركزه الاجتماعي، فسيفرض عليه محيطه ذلك؛ لأنه سيرى نظرات الإعجاب التي ترمُقه حين ينزل من سيارته الفخمة، خلافاً للأمر حين ينزل من سيارة عادية أو رخيصة؛ يصعبُ أن يتجاهل أن الناس تزِنُه انطلاقا من أمورٍ يملكها، وإن امتلأ يقيناً أنه هو كل شيء، إلا أن يكون يستمد قيمته من الأشياء التي يملكها.

كنتُ قرأت منذ مدة ليست بالطويلة كتابا رائعا لعالم النفس والفيلسوف الألماني إيريك فروم بعنوان: “أن تملك أو أن تكون”، يذهب فيه إلى أنه عندما تكون الحياة كلها تدور حول التكاثر ومراكمة وامتلاك الأشياء، فإن نظرتنا للناس تصبح مشوهةً، حيث نعتبرهم أشياء كذلك بالإمكان اكتسابها. ولذلك نتحدث عن “امتلاك”، “أن تصبح لدي” زوجة أو أولاد، عوضا عن أن نصبح “أزواجاً” أو “آباء”. و”الحب” نفسُه يصبح وسيلة للتحكم في الآخرين قصد الحصول على ما نريد؛ فيستعمله الآباء لإخضاع أطفالهم على التصرف بطريقة معينة، أو لتحقيق أشياء معينة؛ اتكاء على هذه العلاقة من “الحب” المزيفة. ويظهر ذلك أيضا في الطريقة التي نتمسك بها بأفكارنا، بدلاً من أن ننفتح على الأفكار الجديدة؛ ذلك أننا عمليا نعتبر أن تغيير الرأي بمثابة فقدان لهذه الملكية الفكرية، فنشعُر أننا لا نتخلى عن مجرد رأي، وإنما نتخلى عن جزء من هويتنا.

ويضيف فروم أنه بخلاف ذلك، عندما يكون المعنى من الحياة هو الكينونة وليس الامتلاك، يصبح هدفنا هو التعبير عمّا نحن عليه في الحقيقة، بدل أن نعرف أنفسنا بما نمتلكه. وهذا يمكّننا من الانفتاح على التغيير وعلى آراء الناس والتجارب المختلفة؛ فما يهم حقًا عندما يكون هذا هو المعنى من وجودنا هو كيفية ارتباطنا بالعالم بشكل سليم، والرضا الذي نجده في احتياجاتنا الخاصة.

والحقيقة أن هذه الفلسفة نجد لها جذورا وقواسم مشتركة لدى الكثير من عظماء التاريخ والأنبياء، فمن تعاليم سيدهارتا غوتاما “بوذا” على سبيل المثال أننا نتغلب على المعاناة، ونحقق السكينة فقط عندما نتوقف عن شغف الممتلكات. ووفقاً للإنجيل، فقد سَأَل يسوع، “ماذا تستفيد إذا ربحت العالم كله ولكنك فقدت نفسك”؟ وأما في هدي الإسلام، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنمًا بين جبلين، فأعطاه إياه، فأتى قومه فقال: أيْ قومِ، أسلموا، فوالله إن محمدًا ليعطي عطاءً من لا يخافُ الفقر، قال أنسٌ رضي الله عنه: “إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها”. والحديث مروي عند مسلم في صحيحه.

لماذا أتحدثُ كثيراً عن العملِ؟ في الواقع، لأنني لطالما شعرتُ أنه يأخذ مني حياتي. ورغم ظروف الحجر وتخفيف ضغط العمل بسبب ذلك، إلا أنه ظهرت تحديات أخرى مرتبطة بالعمل نفسه، ومنها ضرورة التفكير في كيفية طمأنة الناس الذين اعتادوا ارتياد عيادتي أن هذه محنةٌ وستَزول، وأننا سنعود إلى العمل وإلى الحياة الطبيعية عما قريب؟ كيف سنستدرك المواعد المبرمجة سابقا والملغاة بسبب هذا الطارئ؟ وما هو طبيعة الخطاب الذي سنُقدمه للزبناء الذين يزوروننا في العيادة؟ معلوم أن هذا الفيروس ليس مرضاً فقط، بل هو أيضا قضية الرأي العام. ولأن الأمر يتعلق بمرض، فـلِرأي الطبيب سلطةٌ علمية، وهذا يجعل المسؤولية كبيرةً أمام الأطباء. يجب أن يفكروا جيدا في طبيعة الأفكار التي سيُمررونها لمرضاهم عن هذا المستجد الاستثنائي، خاصة وأنه لا بد أن يكون هناك حديث متجدد عن هذا المستجد في كل زيارة أو فحص.

مقالات مرتبطة

أتحدثُ كثيرا عن العمل، لأنه أصبح هو الغاية التي يرمي إليها الناس منذ ولوجهم للمدرسة أول الأمر. صارت المدارس متخصصة الفئة الناشئة لا للإقبال على الحياة بمقدرة وكفاءة ووعي كبير، ولكن للولوج أساسا إلى سوق الشغل. بل حتى الجامعة التي من المفترض أنها وُجدت لتكوين الباحثين والرواد والمفكرين في مختلف المجالات، صارت بدورها لا تُخرّج إلا موظفين ومستأجرين يختفون وتختفي إنتاجاتهم العلمية بمجرد ولوجهم للوظيفة أو سوق الشغل الحر، ويكاد لا يُستثنى من ذلك أساتذة الجامعات أنفسهم، وهم المفروض فيهم أن عملهم الأساس هو البحث العلمي وتكوين الباحثين.

قد يبدو أنني استطردتُ كثيرا، وابتعدتُ عن الموضوع. لكن في الحقيقة هذه الأسئلة والأفكار كلها إنما كانت مناسبتُها هذا المرض، ولولاه لـمَا وجدتُ وقتاً للتفكير فيها، فضلا عن بلورة أفكارٍ متناسقة بصددها والإفصاح عنها كتابةً، مع ما يقتضيه ذلك كله من الحاجة إلى الوقت الطويل وصفاء الذهن ومطاوعة الإلهام والأسلوب.

في هذه الخلوة الاضطرارية، حاولتُ أيضا أن أرشّد استعمالي لتطبيقات التواصل الاجتماعي والاقتصاد في متابعة الأخبار السلبية. أعتقد أنه قد صار من الضروري أن تكون هناك مادة دراسية في مرحلة من المراحل يكون الهدف منها تعليم أبنائنا كيف يتعاملون مع الوسائل التكنولوجية، وتبصّرهم بمخاطرها وطرق الاستفادة المثلى من إيجابياتها؛ لأنه إذا كانت هذه التقنيات خطراً على حياتنا نحن البالغين، فما الظن بالناشئة والأطفال الذين لم يحصِّلوا بعدُ من الوعي ما يُحصّنهم من الوقوع ضحايا لهذه التقنيات والمواقع والشبكات.

ومهما يكن، فقد ابتعدتُ بقدر الطاقة عن هذه المواقع، وحاولتُ الإنصات إلى نفسي، والتأمل في علاقاتي ومجرى حياتي بكل الهدوء والصفاء والتركيز الذي أوتيتُه. وطبيعي أن المرء كلما أطال التفكير، تبدّت له أمور أخرى كانت مخفية، وغالبا ما تكون على شكل مشكلات كانت تنتظر من يحرك مياهها الآسنة. وحياتنا ملأى بالمتغيرات التي تتطلب التفكير المتجدد، لكننا أساتيذ بارعون في الهروب، وماهرون في تجاهل المشكلات والتعايش معها، عوض التوقف الحازم لفهمها وإيجاد الحلول لها.

ورغم هذه الانشغالات الفكرية في هذا الوقت، إلا أنه لا يمكن أن أخفي أنني أظل مع ذلك أنتظر وقت أخذ الدواء بفارغ الصبر؛ الآزيثروميسين لكي أقوي جهازي التنفسي العلوي والسفلي من التعفن البكتيري الثانوي، بالإضافة إلى مسكنات الألم والفيتامينات؛ كنت أُحسّ بتحسن طفيف بعد كل مرة أتناول فيها هذه الأدوية. وكلما تحسنّت حالتي كلما بدأت أسترجع بعضا من أنشطتي البسيطة: التحدث على الهاتف، مشاهدة التلفاز، القراءة […].

بعد أن شعرتُ بتحسن ملحوظ، اتصلت بأحد أصدقائي الأطباء، لأخبره بأنني أتحسن بشكل مطرد، فهل يجب أن أقوم بالتحاليل المخبرية قصد التأكد من الإصابة ومتابعة العلاج؟ كانت إشارته عليّ أن ذلك ليس ضروريا، وأن الأفضل إذا بدأت الأعراض تختفي أن أواصل العلاج، وأن ألتزم العزل المنزلي لمدة أسبوعين، وأكتفي بذلك.

نعم، هما أسبوعان كاملان، بدون عمل وبدون أن ألتقي أحداً، وهي فرصة إضافية لكي أنجز بعض الأعمال المؤجلة، التي ربما كان ينبغي أن تُنجز قبل هذه السنة. لكن قبل ذلك، يجب أن أسترجع نشاطي وحركيتي وأتخلص من حالة العياء الذي لازمني منذ أسبوع.

كانت الفكرة التي اشتغلتُ عليها حيئنذ مباشرة، بعد استرجاع بعضٍ من قواي، هي القيام ببعض اللقاءات المباشرة على موقع الإنستغرام مع العديد من الأصدقاء الذين يعملون في ميادين مختلفة، ويقيمون في بلدان متفرقة ممن يلهمني الحديث معهم والإنصات إليهم والاستفادة منهم. كانت الغاية من تلك اللقاءات التعرف من خلالهم بشكل معمق على موضوعات مختلفة، والاستفادة من تجاربهم ومشاركتها مع المتابعين بالصوت والصورة. كانت تجربة جديدة بالنسبة لي، كنتُ دائما أفضل الكتابة والبقاء في الظل وراء الشاشة، كان ذلك أكثر ارتياحا وأليق بنمط شخصيتي. لكن الأوضاع تتغير، ولا بد لنا أن نتكيف مع مقتضيات وقتنا. يجب أن نعي ونعترف أن الصورة قد أصبحت تستحوذ على اهتمام المتابعين، ونحن علينا أن نستغل إمكاناتنا في إيصال أفكارنا بأنجع السبل المتاحة.

وعلى كل حال، فـلا بد مما لا بد منه؛ ومما لا بد منه: أن نتأقلم مع التطورات والتغييرات والمستجدات .. حتى نستطيع مواكبة عصرنا، وإحداث بعض التأثير الإيجابي، إن قدرنا على ذلك، وإلا فيــكفينا أجر الاجتهاد والمحاولة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri