مدرسة فرانكفورت: التأسيس للنظرية النقدية المعاصرة

لنقل بادئ ذي بدء أن المقصود هنا ب”مدرسة فرانكفورت” هي باختصار تلك الحركة الثقافية التي ظهرت بألمانيا، والتي جاءت أفكارها كانعكاس مباشر للأوضاع التي كانت تعيشها هذه الأخيرة، فعبرت عن مواقفها إزاء الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية، معتمدة أساليب نقدية حديثة ومعاصرة.

قد نمت هذه الحركة لترتفع إلى مستوى “المدرسة”، تستقطب نخبا من المفكرين والفلاسفة من مختلف أنحاء المعمورة، فتطورت رؤاهم وتوسعت مجالات اهتمامهم، لتصل إلى القضايا الكبرى التي تهم الإنسان بشكل عام، ولذلك عمد المؤرخون لتاريخ الفلسفة المعاصرة على تقسيم المراحل التي مرت بها “مدرسة فرانكفورت” إلى ثلاث مراحل رئيسية، عرفت كل مرحلة بروز جيلا جديدا، استفاد فيه الجيل اللاحق من الجيل أو الأجيال السابقة، سواء نظرنا إلى الأمر من زاوية تأثر بعض المفكرين من جيل معين بجيل آخر، وبالتالي السير على منواله في بعض مواقفه، أو نظرنا إليه من ناحية النقد الذي وجهه بعض المفكرين المتأخرين (زمنيا) إلى آخرين متقدمين من نفس المدرسة. فما هي الظروف العامة التي ساهمت في بلورة مشروع هذه المدرسة؟ وما هي الحدود الفاصلة لتمييز كل جيل من هذه الأجيال عن الجيل الآخر؟

المحور الأول: الجيل الأول- الصبغة الماركسية الفرويدية

من نافل القول أن ظهور “مدرسة فرانكفورت” جاء نتيجة لسياق تاريخي مأزوم، وفي ظل واقع عام شهد فيه العالم حربين طاحنتين (الأولى من 1914 إلى 1919 والثانية من 1939 إلى 1945)، فألمانيا التي ما كادت تستفيق من هول الحرب العالمية الأولى وتستوعب مخلفاتها، حتى وجدت نفسها مرة أخرى متورطة في حرب عالمية ثانية أشد فتكا من سابقتها، وقد كان ذلك كفيلا بتوليد نوع من الشعور بالضياع، وإيذانا لكونها سائرة نحو مصير مجهول، حيث دخلت في دوامة من القلق الوجودي عبر عنه كارل ياسبرس قائلا: “لقد فقدنا كل شيء تقريبا، وضعنا الإقليمي، وقوتنا الاقتصادية وسلامتنا الجسدية، والأسوأ من هذا كله المعايير الملزمة والتي تقرب الكرامة الأخلاقية من المشاعر لتكوين شعب (…)، لقد اختفت حكومتنا بدون أية كلمة، لم تعد الأمة الألمانية موجودة، وصار علينا أن نلتمس الإذن من أجل أدنى تصرف”.

يصور لنا هذا النص مشهدا بانوراميا لما آلت إليه أوضاع الأمة الألمانية في تلك الفترة، حين ألفت نفسها كذات “مهملة”، فقدت جل مقوماتها الاقتصادية وقوتها العسكرية وريادتها الفكرية والفلسفية…إلخ.

فلم يكن إذن – والحال هذه- أمام “الروح الألمانية” من خيار سوى رفع التحدي، ومن ثمة العمل من جديد ضمن استراتيجية واضحة المعالم، قائمة على أساليب تقنية حديثة، فانبرى لتلك المهمة مجموعة من المفكرين والباحثين أمثال ماكس هوركهايمر وهيربرت ماركوز وغيرهم، فأسسوا حركة فلسفية جديدة ذات رؤية نقدية تلتقي في صميمها مع الإرث الألماني عامة، هذا الأخير الذي طالما ميز “الفلسفة الألمانية” عن غيرها من الفلسفات الغربية الأخرى، وبوأها -على مر العصور- مكانة فكرية خاصة ومتميزة عن الأمم الأخرى، ونخص بالذكر هنا استنادهم على أسس الفلسفة الجدلية الماركسية، والتحليل النفسي الفرويدي والنقد الكانطي.

انطلقت هذه الحركة بادئ الأمر من مدينة “فرانكفورت” الألمانية سنة 1923، بقرار من وزارة التربية آنذاك، وبدعم مالي من ج. ويل، وبذلك نشأت فكرة “مؤسسة دائمة للدراسة النقدية للظواهر الاجتماعية”، تحمل كارل كرونبورغ مسؤولية المؤسسة إلى غاية سنة 1930 ثم تحول الإشراف بعد ذلك إلى ماكس هوركهايمر باعتباره المؤسس الفعلي للفكرة.

وقد ناقش الدكتور محسن الخوني في أطروحته التي تقدم بها، لنيل شهادة الدكتوراه، والتي تحمل عنوان “منزلة كانط في مدرسة فرانكفورت”، كيف استقر لقب “مدرسة فرانكفورت” على هذه الحركة، حيث أشار إلى أن المعهد في بداية تكوينه وإنشائه، كان يعرف باسم “مركز البحوث الاجتماعية”، ثم أطلق عليه ماكس هوركهايمر حسب الأفق العلمي الذي عمل المعهد على أخذ مسؤوليته، مختصرا ضمنه لفظتين أرادهما أن تعبرا عن اهتمامات المعهد بشكل جامع ومركز فوجد لذلك عبارة “النظرية النقدي théorie critique”.

وبما أن جهود المعهد انصبت في البداية على إنتاج أفكار وآراء فقط، حول موضوعات وقضايا معينة تهم المرحلة بإشكالياتها المتعددة. لم يكن ليرتقي إلى مفهوم “المدرسة” بمعناها الدقيق، ولم يتصف بهذه الصفة إلا فيما بعد.

قام مشروع “مدرسة فرانكفورت” منذ نشأته على نقده لمشروع التنوير بوصفه ركيزة من ركائز الحداثة الغربية، وفي هذا الإطار يقول بومنير كمال أن: “النظرية النقدية منذ نشأتها في الثلاثينيات من القرن العشرين قامت بنقد جذري لمشروع التنوير بما هو رمز الحداثة الغربية، وهذا ما يظهر بصورة جلية في كتاب “جدل التنوير” الذي كتب بالتشارك بين ماكس هوركهايمر وزميله تيودور أدورنو، ويعتبر هذا الكتاب -بإجماع الباحثين المختصين في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت- أهم نص فلسفي ممثلا لها وخاصة في جيلها الأول”.

ومن المعلوم أن التنوير بأوروبا منح اهتماما كبيرا للإنسان، فكان هدفه الأول والأخير هو تحرير الكائن الإنساني من الخوف وجعله سيد نفسه، وكذا عمد إلى تكريس ملكة النقد وإخضاع كل المعارف إلى حكم “العقل” الذي عده ديكارت بأنه “أعدل قسمة بين الناس”، ومنه تمخضت أهم نتائج عصر التنوير والتي تمثلت في “تطور النزعة العقلانية، التي كانت تجسيدا للتقدم والتطور الفكري والاجتماعي، وكذلك الاقتصادي والسياسي، الذي واكب التحولات البنيوية التي حدثت في أوروبا، والتي اعتبرت العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة الصحيحة، وأكدت على احترام العقل، بل وتقديسه، ونبذ الفكر الميتافيزيقي والأسطوري، وناضلت ضد الأيديولوجيا الإقطاعية [القروسطية]، والكنيسة وعملت من أجل سيطرة العقل لقدراته على إدراك وفهم الظواهر الطبيعية والاجتماعية”.

لا مراء أن هذه الثقة في العقل جعلت من إنسان التنوير واثقا في نفسه، وأحس بأن قيمته تكمن في نفسه وأنه بذلك قادرا على توليد منظوماته الأخلاقية، اعتمادا فقط على عقله لا خارجه، وهذا ما خلق له نوعا من “التمركز حول الذات” وبالتالي تفاؤله بكونه مركز الكون.

فإذا كان العقل الغربي قد أوجد حضارة متقدمة قوامها التقدم العلمي، فإن توظيف هذا العقل توظيفا خاطئا وانفصاله عن الحياة نفسها، وتصوره أنه النموذج الأوحد جعله يثمر حضارة عقلانية غير إنسانية، أوقعته في أزمات اللاعقلانية بصور وأشكال مختلفة. فالتنوير بهذا المعنى في نظر هوركهايمر وأدورنو، يعتبر ظاهرة تسلطية شمولية، ونوعا جديدا من الاغتراب. فكان ذلك مدخلا لطرح مواقفه وأفكاره التي تشبعت إلى حد كبير بالنظريات الماركسية والتحليل النفسي الفرويدي.

وعملت على توجيه سهام النقد لذلك التدمير الذاتي الذي يمارسه العقل خلال مرحلة الوضوح الزائف المتعين في الفكر العلمي والفلسفة الوضعية للعلم، حيث يظل هذا الوعي العلمي الحديث بمثابة المصدر الرئيسي للانحطاط الثقافي، وكنتيجة له، “تغرق البشرية في نوع جديد من البربرية بدل أن تدخل في حالة إنسانية حقيقة”.

وسيعمل مفكرو الجيل الثاني من داخل نفس المدرسة على نقد أفكار الجيل الأول ومساءلة آرائهم ومواقفهم، في سياق النقد ونقد النقد، وعلى رأسهم صاحب “الفعل التواصلي” ورائد من رواد الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت يورغن هابرماس. (كما سنرى).

المحور الثاني: الجيل الثاني – النزعة التشاؤمية

إن من بين أبرز رواد الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت الذي تلى الجيل الأول نجد كارل أوتو أوبل ويورغن هابرماس وألبرث تفيلمر وكلاوس أوفة…وغيرهم، بيد أنه كانت لهابرماس حصة الأسد من الشهرة لهذا الجيل، بفضل مكانته التي حازها داخل المؤسسة، والانتشار الواسع الذي حققته فلسفته عن أخلاقيات المناقشة والتواصل. لكن كيف حدث ذلك؟ يتساءل أحد الباحثين، هل كان قدوم هابرماس إلى المدرسة (أي مدرسة فرانكفورت) مرحبا به؟

ثم يجيب؛ إن كان تاريخ المدرسة بين أن هوركهايمر كان يمارس نوعا من السياسة الإقصائية داخل المجموعة، وذلك بتفضيله كل من “بلوك” و “أوودورنو” أما بقية الأعضاء فقد كان مجحفا في حقهم خاصة منهم “نيومان”، “فروم” “بنمين” و”بلوخ”، كما أن هوركهايمر وأودورنو ذهبا إلى ما هو أبعد من خلال محاولتهما تقليص دائرة المجموعة، ويظهر ذلك جليا من خلال تشجيع ماركيوز المستمر على التخلي عن المعهد، بعدما التحق بديوان أعلام الحرب بواشنطن سنة 1942، كما كتب هوركهايمر إلى أدورنو قائلا: “علينا ألا أن نعول عمليا إلا على نفسينا إذا أردنا إنجازا حسنا لأهدافنا”. وهذا ما يفسر عدم بروز صيت أسماء مدرسة فرانكفورت رغم أنهم يسمون أقطاب POLOS المدرسة، خاصة منهم: بلوخ، بنيمين، نيومان، فروم وكورش.

أما عن علاقة هابرماس بهوركهايمر وكيفية انضمامه إلى المدرسة، فإن هوركهايمر لم يكن يرحب إطلاقا بهابرماس، وهو من قالها صراحة في رسالته إلى أدورنو من خلال تأكيده على ضرورة العمل بينهما فقط دون إشراك أحد، حتى يتمكن من تحقيق الأهداف المسطرة. و”لهذا عمدا إلى قطع الطريق أمام هابرماس حتى يغير فكرة الانضمام إلى المدرسة، وقد عبر عن ذلك صراحة في رسالة أخرى لأدورنو سنة 1950 قائلا إنه يرى فيه كاتبا أمامه حياة مرضية ولامعة، ولكنه لن يجلب للمركز سوى متاعب خطيرة”.

مقالات مرتبطة

يتضح إذن أن علاقة المدرسة بهابرماس كان فيها نوع من الحذر والتوجس، وأنه لم يكن مرحبا به داخلها، إلا أن ذلك لا يعني أنه ثم رفضه أو إقصائه، فقد أصبح يورغغن هابرماس فيما بعد وريث المدرسة، وترك بصمة كبيرة أثرت في سير أفكارها ونظرياتها. وإذن لا بد هنا من عرض نبذة بسيطة عن فلسفته الأخلاقية والاجتماعية، والسياسية والنقدية، حتى يتسنى لنا أخذ فكرة بسيطة عن إشكاليات مدرسة فرانكفورت في جيلها الثاني ممثلة بشخصها هابرماس.

لكن لا يمكننا الحديث عن فلسفة هابرماس دون أن نعرج ولو بشكل عابر على فلسفة أستاذه وزميله في المدرسة كارل آبل. شكلت محاولة آبل تأسيس مبحث “الأخلاق الكبرى” أو “الماكرو-أخلاق” تعبيرا عن الوضعية الراهنة المتمثلة في “الأزمة الإيكولوجية”، ففي نظره بقدر ما نحن في حاجة إلى هذه الأخلاق ذات المنحى الكوني، بقدر ما نجد صعوبة في تحقيقها. ذلك أن العلم حسب “آبل” أصبح يطرح العديد من التحديات الأخلاقية الخطيرة التي تمس جوهر الإنسانية جمعاء في وجودها، لأول مرة في تاريخ البشرية، لذلك فالمطلوب تظافر الجهود لمواجهة هذه الوضعية الناتجة عن النمو الصناعي والتطور التكنولوجي والمنافسة الاقتصادية بين الدول المنتجة التي أسهمت في تلوث البيئة”.

إن من تداعيات ما يعرفه العالم من منافسة دولية في شتى المجالات، خاصة في المجالين الصناعي والتكنولوجي، منبعا لتلوث البيئة وتدميرا للمعطى الطبيعي، ما يشكل تهديدا حقيقيا للوجود الإنساني ذاته. لذلك تأتي عملية مراجعة الممارسة العلمية وتخليقها، وأيضا ضرورة تحمل كل واحد مسؤوليته تحسبا لما سيحدث في المستقبل، وهذا ما اعتبره دافعا حقيقيا للبحث عن الكيفية الملائمة لحل مثل هذه المشاكل التي أصبحت تواجه الإنسانية جمعاء”، ومن هنا جاءت فكرة آبل الرئيسة الموصوفة ب “فكرة إتيقا المسؤولية بوصفها إتيقا كونية”.

وقد أخذ آبل عن يوناس وماكس فيبر ما يعرف بمبدأ المسؤولية، فأسس به “أخلاقيات المناقشة” حيث يدمج الأجيال اللاحقة كأطراف مشاركة في العملية التواصلية، وكل فرد مشارك في هذه الأخيرة يعتبر مسؤولا عما يحدث في الحاضر وما سيحدث في المستقبل، فهي إذن مسؤولية مشتركة تلزم كل ذات قادرة على التواصل على تأسيس قيم ومعايير أخلاقية كونية.

وانطلاقا من مبدأ “المسؤولية” هذا يحاول تلميذ آبل، وزميله في الجامعة هابرماس تخطيط صياغة إجرائية لما سماه ب “أخلاقيات المناقشة”، معيدا الاعتبار لمبادئ الحداثة التي عمد فلاسفة ما بعد الحداثة لمحاولة تجاوزها أو القفز عليها، نحو قيم مابعد حداثية جديدة، لذلك نجد هابرماس كممثل للجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت، يدافع عن قيم الحداثة بكونها لم تستنفد كل مقوماتها حتى يكون بالإمكان إقامة قطيعة تامة معها، حين يحلل هابرماس موقف المابعد حداثيين يخلص إلى أن خطابهم سقط في تناقضات صارخة، إذ يلاحظ أن هناك خللا في تصوراتهم الفكرية، حيث أنهم قاموا ببناء مشاريعهم على أساس موقف نقدي مبهم، وقد أطلق عليها اسم “التناقضات الإنجازية”، ففي الأبحاث التي قدمها كل من هايدغر ودريدا لنقد الميتافيزيقا وما كتبه فوكو حول السلطة، يؤكد هابرماس أنهم مسلوبي المرجعية.

يرى هابرماس أن تقديمهم لبعض المصطلحات لا يعدو كونه ذر الرماد في العيون ودوران في حلقة مفرغة وذلك “لانعدام منطلقات واضحة أما ادعاؤهم بنقد الحداثة فهو ليس بالجديد، فسرد هابرماس لقصة نقد ميتافيزيقا الذات قديم جدا قبل نيتشه الذي أصل له”. فهابرماس هنا يحمل صاحب “جينالوجيا الأخلاق” مسؤولية الإفراج عن مشروع نقد الحداثة وقرع مبادئها بمقارع المطرقة، والذي عمد في فلسفته إلى قلب القيم الأخلاقية التي كانت تحمل في جوفها مشروع الحداثة وتؤسس لمنطلقاته، ففتح بالتالي المجال أمام ظهور مفاهيم تجاوزية من قبيل “ما بعد الحداثة” و”النفي” و”موت الحداثة” و”المابعد”… إلخ.

وهذه المفاهيم “لا تفعل حسب هابرماس سوى ذر الرماد في العيون، والتي تستتبعها مصطلحات مخادعة مثل: التفكيك، الاستمرارية، الاختلاف، التشتيت، الانفصال، والقطيعة، وهي تحاكي بعضها بوصفها خطابات جنائزية تأبينية للحداثة، ولذلك فقد كان نيتشه حاجزا منيعا أمام نضج نقد بناء الذي باشره كل من كانط وهيغل، فقاده نقده الهدام هذا في آخر المطاف إلى العدمية”.

تنبني “أخلاقيات المناقشة” عند هابرماس على مجموعة من الركائز والأسس، فالمشروع التواصلي الأخلاقي ليورغن هابرماس “يقوم أساسا على الفعل الكلامي اللغوي، إذ يحرص الفيلسوف الألماني على التأكيد بأن فلسفة اللغة تعد الأساس لنظريته عن الفعل التواصلي فيقول “أنا مدين لكل من النزاعات التداولية والتحليلية للنظرية اللغوية فإن غاية الفهم المتبادل مغروس في الاتصال اللغوي”

ولذلك نجد هابرماس يدعو إلى ضرورة تأسيس ما أسماه ب”تداولية كونية” تحدد شروط صلاحية التبادل والتواصل، وكذا الاهتمام باللغة باعتبارها فعلا لغويا تبادليا تحدده مجموعة من العلاقات التفاعلية الاجتماعية، مما يعني الاهتمام باللغة باعتبارها الوسيط الذي يحقق التفاهم.

وقد واجهت نظرية هابرماس هذه عن “الفعل التواصلي” انتقادات كثيرة، أشهرها ما كتبه الفيلسوف الألماني بيتر سلوتر دايك، حيث بين من خلال تحليلاته وتعليقاته على كتاب هابرماس الأبرز “نظرية الفعل التواصلي”، أنه توجد في قلب نظريته تلك الفكرة التي مفادها أن للمجتمع معرفة بذاته، ولكنه عاجز عن امتلاك تحكم كامل في ذاته، واذن فهناك معرفة بدون ممارسة ممكنة. هكذا تظل رؤية هابرماس تشاؤمية في جوهرها: فالعالم المعيش، المستعمر أكثر فأكثر من طرف الاندماج المنظومي، قادر على تشخيص الأزمة دون ان يمتلك الدواء، عالم تنفصل فيه المعرفة عن الفعل. ولذلك نجد سلوتر دايك يقول معقبا عن رأيه في هابرماس بأن هذا الأخير في أعماق نفسه “لا يؤمن بنظريته التواصلية إلا بما يناسبه”.

لنلقي الآن نظرة على جيل آخر من أجيال “مدرسة فرانكفورت” وهو الجيل الثالث والأخير الذي سنتناوله، حتى تكتمل الرؤية وتتضح الخطى.

الجيل الثالث – الاعتدال والنقد الذاتي

ننتقل الآن لنلقي نظرة على الجيل الثالث والمعاصر، الذي عمل ويعمل اليوم على تجديد “النظرية النقدية” وخلق رؤية فلسفية جديدة قائمة على النقد الذاتي، وبمحاولة لتكريس ثقافة “الاعتراف.”

يحتل مفهوم “الاعتراف” مكانة مركزية داخل النسق المعرفي لهذا الجيل، ويشكل لبنة أساسية في بنائهم الفلسفي، فنجده مثلا عند إكسيل هونيث وسيلا بن حبيب، كما نجده أيضا عند جوديث باتلر، ومن أجل هذا ارتأينا الوقوف عنده قليلا، من خلال تتبع خطوات تطوره عند واحد من رواد الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت، وهو الفيلسوف المعاصر اكسيل هونيث صاحب كتاب “إعادة التوزيع أو الاعتراف” (والذي ألفه بالاشتراك مع الفيلسوفة نانسي فريزر).

في كتابه عن “الصراع من أجل الاعتراف” وتحديدا في الفصل الرابع منه يخصصه هونيث لاقتفاء أثر مفهوم “الاعتراف” في الفلسفة الألمانية من كانط وصولا إلى هيغل، مرورا بفلاسفة آخرين، كان لهم دور في نحت هذا المفهوم، إذ يرى هونيث أنه “يمكن الوقوف على فكرة الاعتراف منذ كتابات صامويل بوفندورف ولايبنتز، فكلاهما تحدث عن الطبيعة الاجتماعية للبشر. لكن فكرة الاعتراف ستعرف ولادتها الحقيقية مع كانط او بفضل النسق الفلسفي الذي أسس له”.

وإذن ففكرة الاعتراف -حسب هونيث- بدأت بشكلها الأولي في الفلسفة الألمانية، مع صاحب “نقد العقل الخالص” فمعه تبلورت الفكرة ومنه خرجت إلى الوجود، ثم يضيف هونيث أن هذه الفكرة ستتطور فيما بعد وستصل إلى أوجها و”ستعرف اكتمالها مع هيغل”.

وقد ارتبط مفهوم الاعتراف عند كانط بمفهوم آخر هو مفهوم “الاحترام” والذي يربطه هو أيضا بمفهوم “الواجب”، فيعرف كانط “الاحترام” في كتابه “تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق” بقوله “في الواقع، إن الاحترام هو تصور عن قيمة، تضع حدا لأنانيتي” ومن خلال هذا التعريف ينطلق كل من فيشته وهيغل لإقامة صرحيهما عن مفهوم “الاعتراف”، وفيخته نفسه هو من سيطبع الثقافة الألمانية بمقولته الشهيرة “لا أحد يمكنه الاعتراف بالآخر، اذا كان لم يعترف الاثنان ببعضهما البعض، ولا أحد يمكنه أن يعامل الآخر ككائن حر، إذا لم تتم معاملته هو الآخر ككائن حر”. فبواسطة الاعتراف وحده تخبر الذات نفسها كذات عاقلة، وتكتشف حريتها به.

ثم يأتي هيغل في كتابه “فينومينولوجيا الروح” ليطور مفهوم الاعتراف بشكل واسع، “ناظرا إليه من محور الصراع بين العبد والسيد أي الصراع بين الذوات، الذي هو نتيجة لرغبة الإنسان في نزع الاعتراف به من طرف الآخر.” فيتكئ إكسيل هونيث على هذا المفهوم الهيغيلي ويقرر أن “المجتمع الجيد هو المجتمع الذي يسمح لأفراده من خلال توفير الظروف الثقافية والاقتصادية والاجتماعية بتحقيق ذواتهم واستقلاليتهم” ثم يضيف “كما أنه المجتمع الذي يسمح لأفراده بتحقيق أحلامهم دون المرور من تجربة الاحتقار او الاقصاء. او بعبارة اخرى جامعة، فالمجتمع الجيد هو الذي يضمن لأفراده شروط حياة جيدة”

فلا يمكن إذن العيش في إطار مجتمعي ما حياة جيدة، دون توفر هذا المجتمع على شرط رئيسي وهو “الاعتراف” بالآخر وحماية حقوقه بل والدفاع عنها.

1xbet casino siteleri bahis siteleri