خبايا الطبيعة

في كل مرة تنهك صعاب الحياة مناعتي المكتسبة أجلس بين أغصان الأشجار المتعرشة، تويجات الزهور البيضاء، ذبال التربة الرطبة وأوراق النباتات المأكولة بفعل ديدان الأرض. أرتمي بين أحضان عالم الطبيعة عالم ينافي ضوضاء وصخب الحياة التي عرفت اندثارا لمجموعة من القيم، إن تمعنا في سبر أغواره لعلمنا الكثير.

كنت آنذاك في السنة الثانية من الجامعة حين درست مادة فيسيولوجيا النبات، من بين أكثر المواد التي أحببت دراستها، بعدها اشتد تعلقي بالطبيعة أكثر وصرت حين أقابلها أستشعر بحواسي ما درسته لأنه حقا لمعجزة ربانية من الخالق.

إنه لمدهش ما تخفيه الطبيعة داخل خلاياها وكأنه مصنع بيولوجي مصغر، وخاصة كونها كائنات حية متجذرة داخل أعماق التربة لا يمكنها التنقل. إنه لنسيج ضخم متكامل من حيث المورفولوجيا والوظيفة بسحره اللامتناهي وبتحديات مستمرة للعيش في ظروف مناخية صعبة وتربة تفتقر الماء والأملاح المعدنية.

تخيل معي أنها ذاتية التغذية تستخدم ثنائي أوكسيد الكربون والذي يعتبر الملوث الأساسي في عصرنا الحالي والطاقة الشمسية لصنع الكيماويات، البلاستيك والأوراق التي نستخدمها. كما أن الأشجار تغير في كل مرة تركيبتها البيوكيميائية لتسمح لخلاياها بإنتاج أجود أنواع الخشب بمواد أكثر تعقيدا، كل ذلك من خلال تواصل مستمر مع الوسط الخارجي المكون من الفونة الدقيقة الممثلة في البكتيريا والفطر اللذان يشكلان المحول الأول للمادة العضوية إلى مادة معدنية قابلة للامتصاص.

إنها تعيش على ما هو متوفر فقط حيث تزرع الماء، غاز ثنائي الكربون وضوء الشمس كل ما تحتاجه لتقوم بسلسلة من التفاعلات الكيميائية، لتنتج في الأخير ما يسمى بالمادة العضوية والتي تتمثل في سكر الكليكوز مصدرها الطاقي الأول للقيام ببقية الوظائف من نمو وتكاثر وإفراز لمجموعة من المواد القاتلة للحشرات.

إنها خلايا سداسية الشكل خضراء بمادة الكلوروفيل متراصة، بغشاء خارجي ومسام وبداخلها عضيات مجهرية تسبح في السيتوبلازم ونواة حقيقية تحمل الخبر الوراثي الذي يبرمج عملياتها البيوكيميائية من تركيب ضوئي، استقلاب طاقي، تكاثر خلوي وموت خلوي مبرمج، سلسلة من التفاعلات المعقدة الغير المرئية بالعين المجردة. هناك حقا عالم أخرس لكنه ذكي وبآليات معقدة، سُخر ليخدم ما يصلح البشرية وينفعها ليل نهار، وفي ظل كل الظروف القاسية وصعبة العيش يبرهن على إخلاصه ووفائه الدائم للإنسانية التي عرفت نور التكنولوجيا والفن والمعمار وغيرها تحت ستاره.

إن الطبيعة مدرسة في حد ذاتها يمكن أن نتعلم منها الكثير فهي تحاكي كل المبادئ والقيم الواجب الاقتداء بها، خاصة وأننا نتشارك نفس المصير، إنها لامتداد وتجسيد للرحمة على هذه الأرض، وجودها أطعم الكثير منذ زمن بعيد ولا يزال يغطي احتياجات العديد، بالرغم من قواها المستنزفة إلا وأنها متواصلة التجديد، مستمرة في التكيف والدليل على هذا هو ما يشهده العالم من النقص الحاصل في الماء وتغير المناخ.

إن أسرار هذا الكون عظيمة جدا ففي كل خلق تجلت عظمة الخالق، لذا، وجب علينا أن نكون ممتنين ومحافظين على ثرواتنا الطبيعية لأنها امتداد منقطع النظير لما يخدم البشرية على طول السنين، وما جاء في هذه السطور التي لم تذكر الكثير ما هو سوى نبذة امتنان وتدبر في خلق الرحمان.

1xbet casino siteleri bahis siteleri