سفينة ثيسيوس : أزمة هوية

بعض المواقف الصعبة في الحياة تدفعنا لنطرح على أنفسنا -بوعي منا أو عن طريق تصرفات تعكس ذلك- السؤال الأزلي : من أنا؟ أو بالأحرى ما يقابله فلسفيا وسوسيولوجيا : سؤال الهوية. فبينما يربطها فلاسفة بتوابث كالبيئة التي ولدت فيها، اللغة، العادات والتقاليد، يرى آخرون أنها مرتبطة بمتغيرات فهي متغيرة كنتيجة لذلك.

لنأخذ نظرة علوية للموضوع، هل من الممكن حقا أن يكون شيء ما تابثا في كياننا نحن الذين نكبر وتتغير ملامحنا، نخطئ ونتعلم أشياء جديدة، تعصف بنا الحياة فنكرهها ثم تبتسم لنا فنبتسم لها كأن لا شيء قد حدث؟ ماذا لو استُبدِل كل شيء فينا بمرور الوقت، فهل نبقى نفس الشيء (مفارقة سفينة ثيسيوس )؟

حينما تتصفح ألبوم صورك في فترة طفولتك، لا بد أنك ستتأمل في مدى الفرق الكبير بين شخصك الراشد وشخصك الطفل. الطفل من جهة بما فيه من ظرافة، نبالة، ودّ، براءة، قلب أبيض، جرأة و شجاعة. الراشد من جهة أخرى بإدراكه للواقع ومرارته، الحذر، الشك، الخوف والمسؤولية.

وهنا لا بد أن نتطرق لموضوع الذاكرة؛ إذ إنها مثل خريطة بيضاء نولد بها، وتملؤها مختلف الأحداث الفارقة والنابضة بالمشاعر أو التجارب الجديدة التي نمر من خلالها في حياتنا، أو ما يسمى اختصارا : الذكريات. وهذه الخريطة المتشكلة في اللاوعي تمكننا من تحديد موقع ذاتنا الحالية مقارنة مع “النسخ القديمة” منها. ورغم ذلك فقد تلاحظ أن أشياء لم تتغير فيك أبدا، قد تكون قِيماً تربيت عليها أو نوعا من الطعام تحبه أو تكرهه.

لنعد للسؤال السابق، ماذا لو استُبدِل كل شيء فينا بمرور الوقت، فهل نبقى نفس الشيء؟ هذه المفارقة ذُكرت بصيغة أخرى من قبل الفيلسوف بلوطرخُس في كتاب “حياة ثيسيوس” في أواخر القرن الأول ميلادي. إذ تساءل عما إذا كانت السفينة التي يتم استبدال كل جزء خشبي منها تظل هي نفس السفينة أم لا. لحسن الحظ، أن الإنسان مختلف عن السفينة، فهو كائن مفكر وواع بما حوله ولا يمكن تغيير ملامحه أو أفكاره كليا بسبب قيد الذكريات، فاتباعه فكرة جديدة لا يلغي بالضرورة أحد أفكاره القديمة.

وانطلاقا من ذلك، نستنتج أن هوية الإنسان إذا اعتبرنا أنها متغيرة بمرور الزمن فلا بد لها من أساس أولي تنبني عليه، ويأتي منطقيا أن ذلك الأساس -أو ما أحب أن أسميه “الطفل الداخلي”- يتشكل لأول مرة في فترة الطفولة، بداية المواجهات مع الحياة. للأسف أن كثيرا منا يغفلون عن هذا الكيان بداخلهم، يقمعونه، لا يسمعون صوته ولا يولونه الاهتمام والرعاية الكافية، فتنشأ لديهم قطيعة مع الصفات والعادات الجيدة كالتي ذكرتها سابقا والمنصهرة في ذات الطفل الداخلي.

أعزائي القراء، أنتم راشدون الآن، وقبل ذلك كنتم أطفالا، لم تمروا من فترة الطفولة عبثا، لا تنسوا أبدا أن ترعوا الطفل بداخلكم، أن تحبوه، أن تشتروا له قطع الشوكولا المفضلة لديه، أن تمرحوا مع أصدقائكم وأهلكم وإخوتكم دون تفكير زائد، دون تفكير زائد، دون تفكير زائد! أن تتعاملوا مع الناس بلين دون ظنون سيئة أو أحقاد وأن تعبروا عن مشاعركم بأريحية وبصدق.

1xbet casino siteleri bahis siteleri