مذكرات لما قبل الكارثة، زلزال الحوز

مع نهاية اليوم، دخلت متأخرا إلى البيت وكان التعب قد بلغ مني ما بلغ، فقد عملت بجد جنبا إلى جنب رفقة السكان، في بناء المسجد الذي ستحتضنه القرية. فما كان مني إلا أن ارتميت على فراشي بعدما توضأت فصليت العشاء. أما الطعام، فقد تناولت شيئا يسيرا.
لقد حملت على عاتقي مسؤولية توفير ما يلزم لعائلتي بعدما وافت المنية والدي منذ سنتين في حادث سير، حيث انقلبت حافلة النقل المزدوج التي كانت تقِلُّه إلى السوق ومعه كثير من الجيران في أحد المنعرجات بعدما هوت عليهم صخرة كبيرة نتيجة السيول، أدت لمصرعهم جميعا. رحمة الله عليهم. فقط والدتي كانت تنتظر عودتي للمنزل، أما إخوتي الصغار فقد استغرقوا في النوم بالفعل. تأكدت من تغطيتهم جيدا، وتأملت في وجوههم النائمة، فكأنما قلبي رقَّ لهم وتأسى لحالهم، فهم يستحقون حياة أفضل. لم أكد ألحظ الدمعة التي بللت خذي.
أما أنا، فرغم الألم والإنهاك الذي مسّني، فقد أبى النوم أن يرتحل بي لعالم الأحلام، لذلك شغلت التلفاز الذي عمَّر معنا طويلا وقمت بضبطه على القناة الإخبارية لأطلع على ما حدث في العالم رغم معرفتي آنفا أن نفس الأشياء تتكرر دائما، فقط العناوين تتغير، فهنا زيادة في أثمنة المحروقات وهناك انقلاب عسكري أو حرب جديدة على وشك النشوب. ولكن يقولون إن معرفة عدوك خير من جهلك به.
لا أقصد أن أكون متشائما فهناك بطبيعة الحال ما يدفع على الأمل كذلك. وأفضل ما يمكنني استحضاره للدلالة على ذلك، أحد أبناء القرية، اسمه محمود، وهو كذلك. يعتبره أطفال القرية مثلا أعلى لهم في النجاح. فقد نشأ في نفس ظروفهم، تمرّغ في نفس التراب، حفظ القرآن في نفس الكتاب مثلهم وركب الحمار رفقة والده للذهاب للسوق كما يفعلون تماما. محمود كان تلميذا نجيبا متواضعا، صفي القلب، بارّا لوالديه. منّ الله عليه بإتمام دراسته بالخارج مستفيدا من منحة شاملة. بعد حين، تم تعيينه في إحدى المناصب العليا، ولكنه لم ينس أبدا أهله وأصله. بل كان كلما زارنا سرّنا، فقد كان يأتي بالألعاب والهدايا والملابس والكتب معه للأطفال. كان يحثهم ويشجعهم على الدراسة، حتى أنه ساهم برفقة مؤسسات خيرية في تجهيز ملعب قرب بمواصفات عالمية لهم، وقام بإعادة تأهيل الكتاب والمدرسة التي مر منها مرّ حتى أمسيا حديث الناس في الدواوير المجاورة.
ربما اهتمامي بالاقتصاد والسياسة يجعل الحياة تبدو أكثر سوادا، حيث يبحث البعض عن الأرباح عن طريق مآسي الناس والبعض الآخر عن السلطة والتحكم. لم يتركوا للأخلاق السامية واللاماديات إلا حيزا ضيقا. يؤلمنا جدا كيف كانت الوفود الانتخابية تزورنا فقط في فترة الحملة الانتخابية ثم تغيب حين انقضائها. ولكن أتعلمون ما الذي يجعلني متمسكا بالأمل ومتبسما طوال الوقت؟ أتعلمون لماذا لم أفكر في الهجرة في زورق أو عبر أسلاك شائكة كما حال الكثيرين ممن حالهم أحسن مني؟ لأني أؤمن أن هذه الأرض ما يزال فيها الخير، فيها بذور صالحة تنتظر من يزرعها ويرعاها -مثل محمود- وقلوب ندية تنتظر من يرويها.
مقالات مرتبطة
إن البشر الأسوياء تملؤهم عواطف نبيلة شتى، ليس لها لا لونٌ ولا رائحة، لكن لا يمكنهم إخفاؤها حينما تكون في أوجها. ولسخرية القدر، لا يمكنهم كذلك التعبير عنها بطريقة صحيحة حينها، يمكن فقط استنباطها من نبض القلب بقوة، بدمعة في العين أو بابتسامة عفوية. أؤمن أن هذه المشاعر الطيبة هي أصل الخير في فطرة الإنسان. يكفي فقط أن يكون قلبك ليِّنا كفاية ليسمح لها بالنفوذ من خلاله. إن الشديد ليس الذي يغلب الناس، ولكن الشديد من غلب نفسه.
في هذا الوقت، انغمست في التفكير في ماهية الخير في الإنسان. وشرد ذهني متأملا في حكمة الله وما يخفيه القدر من خيرٍ وراءه. لم يقاطعني سوى صوت مفزع أشبه ما يكون بدوي الرعد. ولكن لما اشتد الصوت فجأة، توقفت عن الإدراك للحظة بسبب عجزي عن فهم ما يحدث. أتلك قنينة غاز انفجرت أو شيء أكبر تأثيرا، هل يا ترى يتم قصفنا ؟ تطلب مني الأمر وقتا لأدرك أننا بصدد زلزال. كان الأمر أشبه بتلك الكوابيس التي لا تستيقظ منها إلا حينما تكون على مقربة من الموت. ضيعت ما يكفي من الوقت. استجمعت قواي وركضت نحو غرفة والدتي التي وجدتها مفزوعة ثم بسرعة نحو إخوتي الصغار الذين ارتفع صراخهم وبدأوا بالبكاء. بدأ المنزل في الانهيار بالفعل… “
هذه مذكرات افتراضية مقتبسة عن أحداث حقيقية حاولت أن أستجمع فيها معاناة الناس في بعض المناطق القروية لعلها تجد آذانا منصتة.
أتقدم بأخلص التعازي للمغاربة كافة، وللمتضررين من الزلزال خاصة سائلين الله تعالى أن يعوضهم جزاء ما صبروا جنات الفردوس، إنه سميع مجيب. إنا لله وإنا إليه راجعون.
قال رسول الله ﷺ: “ مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.”
أدعوكم، أيها القراء الأعزاء إلى مواصلة التبرع ومساعدة المتضررين بما أمكن ولو بكلمة طيبة أو دعاء.