صحفيون تحت القصف

لم تكن القذائف التي تنزل فوق رؤوسهم، ولا المباني التي تنسف قرب رؤوسهم لتثنيهم عن العودة إلى بيوتهم التي ودعوها بمن فيها، واستودعوها من لا تخيب فيه ظنونهم أبدا، من يوم خرجوا لا يعرفون متى ستكون عودتهم، إن كانت في الأصل واردة، حيث إنهم قد نظروا مطولا لمن فيها على أمل أن يتجدد اللقاء، هنا أو هناك لا محال.

همهم تصيد الأخبار أو بالأحرى هم من باتوا في مصيدة الأخبار على هذه الأرض التي قال عنها درويش «على هذه الأرض ما يستحق الحياة »، إن الأخبار مطروحة في كل طريق وزقاق غزة مرتع الأخبار والحكايات والقصص التي لا تنتهي، بالكاد أن تودع واحدة حتى تجد نفسك أمام المئات والآلاف منها، يخيب ظنهم على الدوام لأنهم غير قادرين على التقاط جميع الصور، وتسليط عدسة الكاميرا على كل البيوت التي تنسف في الآن ذاته، وعلى إسماع العالم كل الصرخات التي تسمع في الأنحاء كلها على الرغم من أنهم يعرفون أن العالم أخرس وأبكم من زمن بعيد، لكنهم يأملون دوما أن يجدوه يوما ما قد شفي من خرسه وبكمه الذي طال أمده.

بكل تفانٍ ينقلون الصورة للعالم ويصفونها في لحظات لا تحتاج فيها الصورة للوصف، ليس من شدة جمالها لأن الجمال هنا شيء آخر يختلف كليا عما يعرفه بقية العالم، الجمال شدة الصبر من هول الفاجعة، صحفي يصف مناظر بشعة وآخر يوجه عدسة نحوها، جثث في كل مكان، ودماء وأعضاء متناثرة للشهداء، وكل هذا وهو يخشى عليك من بشع الصور وهول المنظر، ويطلب لمرات من المصور أن ينقل الصورة من بعيد ويرددها لمرات عدة، لأنه على يقين أنك لن تتحمل ما تراه.

مقالات مرتبطة

مهنة حتمت عليهم البقاء هنا لتوثيق الأحداث، ونقل الحقيقة بأصواتها المدوية في كل ركن من غزة، والتي باتت من شدتها تسمع من به صمم، ولكن شتان بين أن تسمعها وتشعر بوقعها على نفوسهم وأرواحهم وأجسادهم، التي لم يعد ينصفها لا الليل ولا النهار، جفن لا يغمض غزة ليلها يشبه نهارها قصفاً لأحيائها المترامية، ونسف لديارها الشامخة، وسفك لدماء أبريائها، لا فرق هنا بين الصغير والكبير، ولا المولود، ولا الجنين، ولا النساء ولا الرجال كلهم سواسية أمام قصف المدافع، مصير مشترك عنوانه العريض الشهادة في سبيل الله.

أبناء أرض الزيتون هم وحدهم من استطاع أن يتحمل مشقة هذه المهنة، في سبيل نصرة قضيتهم ودينهم، لا أحد سواكم يستطيع لأن قوانين الحرب هنا تضرب عرض الحائط، لا الخوذة ولا الدروع قادرة على حماية رؤوسهم وصدورهم، فحمالة القلم والعدسة والأصوات الحرة هنا سيان بينهم وبين حملة السلاح، كل يوجه سلاحه نحو العدو فالأول يضعه أمام جرائمه الوحشية بنقل تفاصيلها للعالم، والثاني يحاول ردعه برصاصه، ولكن العدول الغاشم لا يضع لأي واحد منها اعتباراً إذ إن رياحه الهوجاء إن هبت تحصد الأخضر واليابس بمباركة الإخوة والأعداء.

لا مجال للتراجع والخوف والخنوع، وأنت تنقل الحدث لا تعرف أي ضحية سوف تصادف بين ضحايا القصف التي تحمل هرعا للمستشفى، قد تكون زوجة أو ابناً أو أختا وفي أسوأ الأحوال قد تصادف العائلة برمتها، وجيرانك والأقربين، وما عليك إلا التجلد في ظل الفاجعة، رغم أن السبيل إليه صعب ولكن تعرف أنه أقرب للشهادة وتصبر بذلك وترابط وتستجمع قواك، وتشيع من استشهد من فلذات أكبادك وتواصل الطريق نحو المجهول، وتندفع إلى الأماكن التي تستهدف بالصواريخ والقنابل وغيرها من الأسلحة التي تجيد الدمار وسفك الدماء.

تندفع بين الأنقاض لتصف ما يجري حولك وأنت بالكاد تستوعب هول الفاجعة، بحث وترقب، وصراخ وبكاء وعويل ثم تكبير، وأنت تتأمل قدرة الإله على حفظه لمن يخرج تحت الأنقاض سالما، تدرك جيدا أن الحياة تستمر لأن الخالق أراد لها ذلك، وحين آخر تقوم بدور المنقذ والمغيث حيث يأتيك طلب استنجاد بين الأنقاض وتضع الخبر جانبا لتشارك في صناعة خبر آخر أجمل بكثير من الذي سبقه، على هذه الأرض الأدوار ليست مزوعة بين الأفراد التي تنقل الحدث في لحظة من اللحظات قد يكون هو الحدث، والأمر سيان مع المسعف والطبيب وكل غزي حكمت عليه الأقدار أن يصنع التاريخ في زمن سقطت فيه كل الأقنعة، وعرف فيه المخرج والممثل، وغاب فيه حاصد الجوائز بحضور حاصد الأرواح ومن معه، ولكن لا يخفى علينا في السر ولا في العلن أن أبناء فلسطين هم من حصدوا كل جوائز الشجاعة والشرف والمروءة، وبقية الجوائز من الذل والخذلان والخنوع قد وزعت بتساوي عن بقية العالم.

1xbet casino siteleri bahis siteleri