مقابل الحياة

‎يعتصر قلبي وينقبض كلما رأيت مريضا يخرج من المصحة قبل أن يأخذ علاجه التام لأنه ضائق ماديا وليس له القدرة على دفع أجر عملية أو المكوث في المصحة من أجل الاستشفاء، رأيت حالة أب بملابس رثة وحذاء ممزق غاب عن الوعي عندما سمع تكلفة عملية ابنه الجراحية لترميم كسوره المتفرقة بعد أن ألقى الفتى بنفسه من الطابق الثاني لمنزلهم، تمدد الأب أرضا في باب المصحة رافعا راية الخذلان والإخفاق.

رأيت كذلك حالة امرأة ضريرة تبكي بحرقة لأنها لم تستطع دفع عملية زوجها الذي أنهكه تضخم البروستات وأثرت على حياته الاجتماعية والنفسية، لم يعد قادرا على الاجتماع برفاقه بمقهى الحي القديم ولا التسلي بلعبة البارتشي كما كان يفعل سابقا، رفيقه الحالي الوحيد هو الكيس الجامع للبول الذي يحمله أينما ذهب ورفيقته الضريرة التي تطوف المصحات تساوم تسعيرة عملية زوجها.

عاينت كذلك حالة زوج منهار لأنه جلب زوجته الغائبة عن الوعي، المضطجعة في الدماء بعد أن فقدت جنينها، وهرعت إلى المصحة من أجل أن تتخلص مما بقي في أحشائها ومن آلامها القاتلة لتفاجئها طبيبة النساء والتوليد أن تسعيرة التطبيب خلال نهاية الأسبوع وخاصة يوم الأحد تكون مضاعفة، لتجر المريضة ذيول الخيبة بأسى إلى وجهة غير محددة.

مقالات مرتبطة

عاينت حالات عديدة لرجال ونساء ضاقت بهم الأرض ولم تسعهم لأنهم خذلوا أقربائهم ولم يستطيعوا أن يضمنوا لهم ثمن عملية ستخفف من آلامهم وتداوي سقمهم، تأملت مشهد عائلة تنسحب بكبارها وصغارها ونسائها من أجل المداولة، مداولة عصيبة من أجل التفكير في التخلي عن كل الأشياء الثانوية وبيعها من أجل طفلهم المراهق الذي امتطى دراجته النارية دون خوذة فانتهى به المطاف بكسور متعددة تستدعي أخذه إلى جناح الإنعاش حيث يساوي المكوث فيه بضع ليالي ما ادخره المرء متوسط الدخل مدة طويلة، طويلة جدا، يخبرونني بكل حزم: سنبيع ما قبلنا وما وراءنا من أجل ابننا، أولويتنا هي حياته الآن، أتخيل شعور الفتى عندنا سيعي أن عائلته ضحت بكل ما تملك من أجل أن يتلقى رعاية طبية جيدة بمصحة خاصة، هل سيتمنى الرجوع إلى الوراء ويلغي فكرته الجنونية تلك بقيادته المتهورة لدراجته النارية، هل سيعض أصابعه من شدة الندم لتوريطه لأسرته في مثل هذه الضائقة المادية، هل سيعي أخيرا أن عائلته هي جيشه الوحيد الذي سيعلن الحرب دائما من أجله.

أشعر بالخيبة واليأس حقا، وأتساءل إن كنت قد فوت مادة في مسارنا الأكاديمي الطبي تتطرق إلى أننا سنرى بأم أعيننا مرضى يغادرون المشفى بعد فحصهم وتشخيص دائهم ومعرفة دوائهم، ثم تحول ضيق ذات اليد دون شفاءهم، دون أن تتحقق الخطوة التالية لما درسناه و لقنا إياه طوال هذه السنوات، دون أن نحقق ما درسنا و كافحنا و تكبدنا مرارة دراسته، عندما يخرج المريض حاملا مرضه من المصحة فإنني أحس بالإخفاق، بالضعف بل يعجز اللسان والكلمات عن شرحه ذلك.

أتمنى أن أرى يوما حادة المرأة المعوزة تتمكن من تتبع حالة حملها دون أن تفكر في تجويع نفسها للخضوع لفحص بالصدى، وأتمنى يوما أن لا توضع المزيد من الأسر الهشة بين مطرقة الفقر وقلة الحيلة وسندان تكاليف التطبيب الباهضة التي تثقل كاهل المرء المعدم حتى النخاع، أتمنى أن لا يطلب مني المريض بخجل تحديد التحاليل ذات الضرورة القصوى فقط، أو تدوين أبخس الأدوية ثمنا على الإطلاق. أتمنى أن لا يعتبر بنو شعبي من المحتاجين الرعاية الطبية الجيدة ترفا وبذخا بل حقا وجب تحريره والدفاع عنه. أتمنى أن يحضوا يوما بتعميم لضمان صحي فعال، يساهم في تعزيز صحتهم، ويحفظ كرامتهم ويريح قلوبهم المتعبة من مشقات الحياة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri