لا أدري كيف حدث كل هذا، كيف مرت كل هاته السنين لتَتكتَّل على عاتقي البالي، أقمع بين الفينة والأخرى صوت الطفل الذي لم يكبر بعد، ليظل عالقا في طفولة غابرة أتوق لبراءتها، أحمل كفي الضخمة وألصقها بفمه الصغير حتى أمنع صراخه الجَهورِي الذي يملأ كل أركان ذاكرتي الفارغة من كل شيء، الممتلئة بكل شيء، فلا تصلح العودة في هذا الزمن، لا يصلح إحياء ذكريات منسية في آنها.
الذاكرة هنا حية بجسدها، والروح في ركن آخر تبكي على الصبي القابع أمام الأجداث التي تأوي أجسادا كانت حية قبل أيام قليلة، قبل العيد وبعد العيد، قبل ساعتين كانت تطلق زفيرا ليعقبه شهيق، يجلس الآن بدون دموع فقد استهلكهم في البكاء على البيت المهدَّم، والذكريات التي يَضُمُّها البيت المُهدَّم، والكتب التي يضُمُّها البيت المهدم، وهدية الأم التي يضُمُّها البيت المهدم، وكل ركن وكل رف وكل لوحة في البيت المهدم الذي سيغدو في مستقبله نارًا مشتعلة لا شيء يطفئها، شعلة أبدية سرمدية لها بداية، وبدون نهاية.
يوم الطفل العالمي، يوم المرأة العالمي، يوم الأم العالمي، يوم النِّفاق ويوم الازدواجية ف الآراء العالمي. أين الطفل الذي به سنحتفي؟ وأين المرأة التي بها سنحتفي وهم يُقتلُون؟ تنهال على رؤوسهم البيوت التي شيدوها لتأوي شملهم، يغدو الجسد حبيسا بين الحجارة التي بنيت بكل فرح لتصبح الآن حبسًا ضيقًا ومظلمًا على الجسد الذي يلفظ آخر الأنفاس، تستقر صخرة ضخمة على الجانب الأيمن من الجسد فَتَشُلُّ حركته، ويغرق الجانب الأيسر في عمق الأرض، تلفظ الأنفاس بصعوبة بليغة، أنفاس مختلطة بالغبار، تُسمع النداءات ولا قدرة على الرمي بكلمة للطواقم حتى يستدِلُّوا بالمكان، ينبثق شعاع نور تُبصره العين بصعوبة، ولكن تلفظ آخر الأنفاس لتنتهي قصة من ألف، قصة مغمَّسة بكبرياء وعِزِّ صاحب الأرض وذُلٍ وضعفٍ ممن خان الأخ.
يستمر الطفل بصراخه العالي بداخلي، يمضي نحوي خطوة، ولا أمضي نحوه شبرا، يستغيث كي أنقله من مصيدة الطفولة إلى جحيم البلوغ ولا أفعل، أتركه مقيدا هناك، معلقا كحنظلة الحبيس في عمر العشر سنين، منذ غادر فلسطين وحين يعود إلى فلسطين يبدأ في النمو لأنه استثناء كما هو فقدان الوطن استثناء، هكذا الطفل بداخلي لا يكبر حتى أعود لأكمل معه مرحلة لم تكتمل خطوة بخطوة، وإلا بقي في استغاثاته اللامنتهية.
تتضح الصورة أكثر وأنا أعي أن حاضر اليوم هو ذكريات الغد، فمتى سيُتاح لنا أن نعود للذكريات ونجدها مؤثتة بالزهو، متى تغدو الذاكرة مرتعا للعودة البهيجة، أيصلح أن نتغاضى على ما هو مؤلم، ونعود فقط للذكريات الجميلة باحثين عنها وسط ألف خيبة وخمسين بهجة.
أُسدِل الستار وأنا أخنق بكلتا يداي الصبي من عنقه وأضغط بكل قوة، فهذا الحل هو الأمتل، يطول الصراع كثيرا كثيرا، أعجز فينفلت مني مستعيدا لاعتدال أنفاسه، ومعيدا خلق الفوضى، ضجيج يفوق الأول.