البدايات الجميلة

ربع قرن وسنة، ستة وعشرون دورة حول الشمس، اليوم أحتفل بذكرى ميلادي ولأول مرة من الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط، من بلاد الرايخ والراين والبريتزل، من مدينة الألمان الرابضة في قلب الغابة السوداء بالقرب من المثلث الحدودي السويسري والفرنسي والألماني.
لو عدت بي قليلا إلى الوراء وأخبرتني أنني سأطفئ شمعة ميلادي يوما بألمانيا، سأخبرك أنك فقدت عقلك وأن قدراتك الفكرية بدأت تتدهور. وأنك تقص أحجية خيالية غير متزنة وواقعية.

لم تجمعني في طفولتي قط علاقة قوية ولا أحلام كبرى بألمانيا، كانت ألوان علمها تبعث الغرابة في نفسي أحمر أسود وأصفر، ألوان توحي بالخريف والحزن والدفء. اقترنت صورة ألمانيا في ذهن طفولتي بصورة بكأس الشامبانيا الممتلئة عن آخرها بفقعات الشمانيا ولونها الذهبي، ثم بدأت هذه الصورة تتسع وتقترن أيضا بسيارات المرسيدس، بدروس تاريخ السنة الثالثة إعدادي، بألمانيا الإمبراطورية، حكومة فيمار، الألمانيتين الشرقية والغربية، جدار برلين ثم ألمانيا الاتحادية، اقترنت الصورة أيضا بمظاهر الجمال المتكامل بعيون زرقاء وشعر أشقر وأجساد رشيقة، بقبعات البيكي بليندر، والتنورات والموسيقى الريفية، رسمت في ذهني مرات عديدة خريطة ألمانيا وجغرافية بافاريا وحدود ألمانيا الشرقية والغربية، تساءلت مرارا كيف استطاع شعب أن يعيش مرارة الحدود على وطنه، أن يجزئ وطنك إلى دولتين بين عشية وضحاها، أن تنام وتصبح في الغد بتوجه إما رأسمالي أو اشتراكي، ديمقراطي أو شيوعي ماركسي، تخيلت مرار الحرب الطاحنة التي مرت هنا والخوف والذعر الذي بث هنا، أود مرات أن أتكلم مع الأزقة وجدران المنازل علها تحكي ما رأت وما عيش وحيك هنا.

مقالات مرتبطة

لا أخفيكم أنني انبهرت بهذا الشعب وقوة إرادته، بقوة السواعد التي بنت هذا الوطن من تحت الأنقاض، كيف أعيدت الحياة هنا، كيف استطاعوا المضي والانبعاث من الرماد، كيف صنعوا هذا المجد وأصبح الألمان نموذجا و”صنع في ألمانيا” معيارا كافيا للاقتناع بجودة المنتوج، كيف أصبحت ألمانيا أرضا خصبة للإبداع والابتكار، كيف أصبح الحلم الألماني حلم معظم الشباب العربي، أسئلة وأخرى تراودني منذ قدومي إلى ألمانيا قبل شهرين.

قبل قدومي إلى هنا أو حتى التفكير في ذلك. قطعت شوطا لا يستهان به، تحديت نفسي وقدمت إلى هنا، رسمت مسارا جديدا لحياتي. حملت عالمي الصغير، تجاربي الحياتية والمهنية وكل تفصيل لقنته وشققت الطريق نحو برلين. يحب بلادا ويرحل عنها يقول درويش وأنا أيضا أحب المغرب، أحببت تاريخه ومجده وثقافته، لكن في مغادرته أيضا شفاء وبداية لحياة جديدة لي، غادرت الوطن لكن الوطن لن ولم يغادرني، غادرت كي أحلق عاليا وتصبح جناحي أقوى، كي أخرج من منطقة الراحة إلى منطقة تقايض فيها الدقائق بالأموال، حيت يركض الناس في كل مكان ويلهثون وراء المونسن وسكة القطار والشطغاسن بان والمراكز التجارية قبل أن تقفل مع الثامنة مساء. حيث تستقبل الشمس بالفرح والسرور، حيث تعيش كل فصول السنة في يوم واحد، حيث تقدس الاجتماعات العائلية وتعد الأطباق المعدة المنزلية ترفا. حيث يعيش الناس أيضا حياة عادية، يفرحون ويحزنون ويمرضون.

الإنجازات الصغيرة تستحق الاحتفاء أيضا، قطعت شوطا مهما قبل قدومي ولا زلت في بداية مشوار الألف ميل، سعيدة بذكرى ميلادي السادس والعشرين بنكهة الغابة السوداء ونهر الدرايزام، بقلب بلاد الوحدة والعدالة والحرية، عيد ميلاد بطعم البدايات الجميلة.