الشدة مِنقاة، والمواقف فيها كاشفة

إن حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الغاصب على غزة كانت مقياسا لمدى إنسانية كل شخص، وفحصا كاشفا عن زيف هذه الإنسانية لدى أغلب القيادات الغربية وأكثر مؤسساتهم الإعلامية والعاملين فيها. كما أنها كشَفتْ عن كيف يُسيَّـر هذا العالم، وعن حقيقة الدول الغربية، وحقيقة مجلس الأمن ومعه الأمم المتحدة. وكانت السبب في سقوط ما تبقى من خرافة حقوق الإنسان، وأسطورة الديمقراطية وصون الأقليات المستضعفة. سقطت تلك الأقنعة كلها، وبرزت الحقيقة الوحشية لهؤلاء القوم، وانكشف الغطاء الحداثي المزعوم. ولم يَنكشف زيف إنسانيتهم فقط، بل تأكد أيضا أن لهم قابليةً كبيرة للتعايش مع الوحشية وقدرة بشعة على تبريرها والدفاع عنها. انكشفت أقنعة النفاق والخداع والتواطؤ والخيانة والتخاذل غربا وشرقا، عربا وعجما.

أبانت حرب الإبادة الجماعية كذلك عن معادن بعض الناس ممن يعيشون بين ظهرانينا، ودرجة إنسانيتهم، ومدى أنانياتهم، وكشفتْ لنا عمن يمكننا الوثوق بهم ومن يتعذر ذلك فيهم. فأن ترى وتشاهد قتلَ الناس ظلما وعدوانا، أطفالا ونساء وكهولا ورجالا، في مناظر بشعة لا يقبلها طبع سليم، حيثُ التخريب الممنهج للعمارات وبيوت الناس، والتهجير الجماعي للسكان، والتخويف والتجويع، والجثث والأشلاء البشرية في كل مكان، أمهات يبكين ألماً، أطفال يرتجفون هلعا، آباء يذرفون الدموع قهراً. أن ترى كل ذلك -وأقدر أن الجميع رآه- ثم لا يتحرك فيك شيء، ولا تعير أدنى اهتمام، ولا يشكل لديك أي مشكل، إن ذلك حقا لَمُعضلة كبيرة. ومن الكذب أن ندعي أننا لا نستطيع فعل أي شيء، وأنه من الأحسن أن نركز على أمورنا الخاصة. ذلك أن المطلوب من كل شخص أن يُسهم في محاربة الظلم والعدوان بالقدر الذي يستطيع القيام به، ولو بكلمة على مواقع التواصل الاجتماعي، أو بوقفة في ساحة عامة مع الناس. وتلك الكلمات والوقفات باجتماعها في كل البلدان والدول، تشكل ضغطا كبيرا على القوى الفاعلة في دولته أولا، ثم في المنتظم الدولي ثانيا، كما أنها تمارس ضغطا كبيرا على الكيان لوقف عدوانه، وتسوّد صورته لدى الشعوب، وليس ذلك بقليل.

ولعل من الدروس التي يمكن أن نخلص إليها من مواقف الناس من هذه الحرب، هو أن نُعيد ترتيب مكانة الأشخاص في حياتنا. وذلك أمر من الأهمية بمكان؛ لأن هؤلاء المتخاذلين لن تجدهم في صفك أو بجانبك لو احتجتَ إليهم، أو أصبحتَ في موقف ضعف تحتاج فيه مؤازرة ومساندة منهم. بل الأرجح أن لا يأبهوا بك، وأن لا يعيروا لك أدنى اهتمام، لأن الإنسانية واحدة لا تتجزأ. ومن الكذب القول بأن “تازة قبل غزة”، لمحاولة تبرير عدم اللامبالاة بما يجري، بل هي كذبة قبيحة لا يليق بإنسان يحترم نفسه أن يَتلبّس بها. وقد يبدو هذا الكلام لبعض هؤلاء مبالغة لا داعي لها، لكنني أعنيه وأعيه وأؤمن به حقيقة. فكل من يحاول أن يضفي ولو جزءا يسيرا من المشروعية على همجية ووحشية الكيان بادعاء حقه في الدفاع عن نفسه، لا يمكنني أن أعتبره صديقا أو مقربا بأي حال من الأحوال، ولا يمكن أن تجمعني به أية علاقة من أي صنف كانت. لأنني أؤمن أن تبرير العدوان الهمجي على الناس الأبرياء هو أمر غير إنساني، وأنه يقوم سببا كافيا لقطع أي علاقة مع أي شخص يحاول ذلك.

نعم، من الطبيعي أن تختلف آراء الناس ومواقفهم في بعض القضايا، لكن هناك قضايا تَضيقُ بالخلاف. وكيف يسوغ أن نختلف حول المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني حاليا في قطاع غزة؟ وحرب الإبادة الجماعية التي لم تتوقف منذ أكثر من أربعين يوما؟ لذلك فالاختلاف حولها حقا يُفسد للود قضية. وأي ودّ يمكن أن يجمعك بشخص لا يرى بأساً في تقتيل الأطفال، أو يرى مشروعيته ما دام أن ذلك يمكن أن يؤدي إلى القضاء على ما يعتبره عدوا أيديولوجيا له؟ أو يحاوِل أن يُحمل مسؤولية تقتيلهم لجهةٍ أخرى غير القاتلة الحقيقية. أي ودّ يمكن أن يجمعك بشخص قرر أن يُصِم آذانَه، ويُدير ظهرَه لهؤلاء الضحايا في أحلك اللحظات خذلاناً وأنانية، سواء ذلك عن رغبة أو رهبة أو عن لامبالاة. أي ود سيجمعك بشخصٍ، منظوره للإنسان يتجزأ ويتلون بحسب الشخص المعني؟

غير بعيد عن هذا السياق، علمتنا الأحداث الجارية شيئا آخر، وهو أن إيمان الناس لا يُقاس بعدد مرات حجهم أو اعتماره أو لزومهم الصلاة في الجماعة، مع أهمية هذه الأركان كلها دينيا، لأن قوة الإيمان تظهر أيضا وأساسا في قدرة الشخص على التضحية من أجل إخوانه، مع معرفته المسبقة بأنه سيخسر الكثير، أو أن مصدر رزقه مهدد، وأن تضامنه وتضحيته قد يُكلفه خسارة مصدر رزقه، إما بطرده مع العمل أو بحذف حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي قضى عمراً مديداً وهو يُنمِّيها. فَكَم من أشخاص فقدوا عملَهُم بسبب دفاعهم عن إخوانهم، ولم يُثنِهم ذلك قيد أنملة، أو يُشككهم في صحة موقفهم. وليس مفاجئا أن عمق الإيمان لا يقاس بشكل الشخص أو بمظهره. فكَم من شخص كنا نعده شيئا فظهر أنه لا شيء. والعكس بالعكس؛ كَم من أشخاص كانوا يبدون لنا من بعيد أنه لا يُعول عليهم، فإذا بهم عند الشدة يَـهبُّون لنصرة إخوانهم، ولم يَكلُّوا أو يملوا رغم طول أيام الحرب، ونفور النفوس طبيعةً من أخبارها. وذلك درسٌ لو وعيناه عظيم.

والحاصل أن الشدة مِنقاة، والمواقف فيها كاشفة. ولكلٍّ معدِنُه الذي يتصرف على أساسه، إنْ طيبا فطيّباً، وإن خبيثا فخبيثا. ولكلٍّ مقامُه الذي يضع فيه نفسه، إنْ كبيراً فكبيراً، وإنْ صغيرا فصغيرا.

1xbet casino siteleri bahis siteleri