من سيصدق!

تتشجع بالبوح بخيباتك الكثيرة وانتصارك الوحيد؛ ولكن ثمة ما يؤكد عدم تصديقك. تعود لذات المكان كجندي مهزوم يبيع بندقيته بنسيان خسارته، تتذكر ما حدث بعد ألف عامٍ من الآن، وأنت تعيش لحظة نهاية الجنس البشري؛ يبدو الأمر غير منطقي وأنت تُقرر خط حكايته: لكن هذا ما حدث أو أن ذلك ما سيحدث! تتبادل هذا مع نفسك، والخطوات تتمشى بك بردهات مركز الأبحاث المتخصص بحماية البشر مما يسميه العامة: بهوس العلماء.

تبتسم أنك لم تكن كبقية البشر، لقد رفضت الاستسلام للموت أمام تلك الكائنات الغازية، يبدو أن ذلك ليس أمراً مهماً للكثيرين وحيرتهم تنط فوق أشواك الكيفية التي حدث فيها كل ذلك، وبينما بدت احتمالات الحياة معدومة في خضم القتل، إلاّ أنك تمكنت بمعاونة الصوت اللامصدر له من حفظ السلالة البشرية من الانقراض.

تقف على أعتاب وصولك حينها قبل الجميع وكأنك عاشقُ على مفترق الرحيل؛ لم يكن ذلك غريباً لحراس المركز الذين اختفوا بعدها بساعة تقريباً. يتنامى شعور حنقك لتأخر فريق العمل لخمس دقائق كاملة، يزداد حقدك عليهم، تخمن هواجسك بإضرابهم عن العمل، تتكاثر حشائش هذيانك عن سر إجماعهم على قرار كهذا دون علمك. تتجاهل ذلك؛ تباشر تشغيل أجهزة المعمل تباعاً، تصحو ذاكرتك فوق سرير الوقت الذي تطلب منك للقيام بذلك؛ تنام تحت لحاف خبراتك الكبيرة في جميع وحدات التشغيل ما يُسهل عليك عمل ذلك بمفردك، وبمجرد أن تُقرر العودة لغرفة التحكم لمفاجأة الفريق الذي خلت أنه سيأتي بانتهاء الساعة الأولى؛ وهي المدة القانونية في أول يومٍ للإضراب، تسمع صوتاً ليس لك؛ تُقسم الآن في نفسك أن ذلك ما حدث، وأنك لا تزال بعد كل تلك السنوات التي انقضت قبل أن تأتي عاجزاً في الوصول لصاحب الصوت الذي مكنك دون سواك من البقاء، يخفق قلبك وأنت تستحضر أولى نداءاته المبهمة: أيها الأصم؛ افعل شيئاً لإنقاذ البشرية المسحوقة تحت أقدام الكائنات الغازية.

يُحذرك مما كنت وفريق عملك على مدى سنوات تتجنبون ارتطام البشرية بشبح حقيقة مخاوفه، تستغرب قبل كل شيء سماعك وأنت الرجل الأصم للصوت الذي لم يعلُ على تكات ساعة الحائط، تُسرع لغرفة التحكم على ظهر شكوك يقينك بورطة منعت فريق العمل من الحضور، تنادي حارس المركز الداخلي لمساعدتك برفع مفاتيح التشغيل الشبيهة بمزلاج خلفي لباب شاحنة كبيرة، تسمع ذات الصوت ثانية: إنهم يموتون وأنت لا تفعل. وبينما تنبئك أصوات الأجهزة بنجاح مهمتك دون الحاجة لمساعدة أحد يعاود الصوت كلامه إليك: أحسنت؛ أنت قوي العزيمة وتستحق التقدير، عليك الركض للخطوة التالية.

يصرخ الأصم الذي لم يصدق عودة سمعه؛ تطالبه بأن يكشف عن نفسه، تفشل في سماع رده مثلما لم تتمكن عينيك من رؤية قهقهة كتلك التي طالما رأيتها في وجوه زملائك، تتجاهل الأمر متجاوزاً صفعهم لعينيك دون إغاضة أذنيك ورسائل التحذير تركض صوبك من كل الأجهزة المثبتة أعلى جدار المركز، تعود على عجل لغرفة التحكم التي غادرتها للتو، يستوقفك ما حدث قبل ثلاثة أيام: كُنت وفريق العمل قد توصلتم لما أكدت أبحاثكم أنها مستوطنة على تخوم الأرض؛ وبرغم ذهاب بعضكم لكونها مستوطنة يحتمل أن تكون لبشر هاجروا نحو الزمن، كان الكثير وأنت منهم يؤكدون أنها لكائنات تعتزم محاربة ساكني الأرض ذات يوم, تقول في نفسك: لقد رأيت بشاشة جهازي أشكالهم المنتظرة لنداء من خلف الرغبة أو من وراء صوت للقتل، تدهس مخاوفك التي أكدها ما تبينت منه داخل غرفة التحكم الميتافيزيقية المتخصصة في قياس مشاعر الكائنات الغريبةـ تنهي مراجعة كل ذلك وأنت في طريقك لتحويل نظام العمل للآلي حتى يسهل عليك معرفة ما يحدث.

يجثم عجزك في تشغيل تروس خيالك المنهك، تفتح نوافذ الارتباك حيرتها بوجهك؛ تأخذك لهول الرسائل المخيفة التي تلتقطها رادارات المركز حول العالم، ترى ما كان بالأمس احتمالاً يمد لسانه ليحيلك لما صعب عليك التصريح به للناس وأصبح اللحظة واقعاً على أنقاضهم, تُعانق استسلام خروجك لملاقاة حتفك كما تحتمل حدوثه لفريق عملك؛ غير أن ذات الصوت يعاود حديثه هازئاً هذه المرة: قد تكون مشوشاً في هذه المرحلة بالذات؛ ولكن عليك أن تفعل شيئاً من أجلك أنت، أما أنا فلا أحتاج أكثر من ثنائك وأنت تسرد حكايتك لأجيال البشر القادمة بعد أن يموت الجميع ولا يبقى سواك.

ومن أين ستأتي الأجيال وأنت تتحدث عن فناء الكائن البشري؟ تقولها بصوت غاضب، لكنه يبدو أكثر منك غضباً، أنا لا أتحدث؛ ولكن كل شيء انتهى مع هذه اللحظة ولم يبقَ سواك على هذه الأرض. وكيف حدث ذلك؟ تقولها بصوتٍ ممزوج بالأسى، غير أن جسدك يتلقى صفعة لم تدر من أين أتت، تمسح دماء وجهك المسالة على الأرض وأنت تقرأ خفايا الصوت المدفون خلسة في جوف الموت، تتجاهل أوجاع وهو يصهل بأرجاء المركز: ليس المهم ما حدث وكيف؟ تخلص من حيرتك ودع عنك اليأس الذي لم تكن تسمح له بالسيطرة عليك قبل اليوم. تلملم خوفك تحت جنح أصداء شتائمه؛ تنهض ساقيك المرتعشة لحدة التنبيهات الأخيرة، تقفُ أسفل القبة الدائرية المتوسطة لسقف المركز، تنتظر منه أن ينير أحجية حلم منام؛ يُسمعك حكمة فشل هوس أبحاثك التي بدأت دونما نهاية، يلقنك حكمة خبأها محفظة ما يجزم بانتهاء حدوثه، إلاّ أنه يباغت أمواج أفكارك؛ يطالبك إعانته في حفظ نسل البشرية من الانقراض للأبد، يضحك وأنت تتذمر أن تكون شبيهاً بالكائنات الغازية إذا ما أردت القضاء على جميعها، يجيبك دون أن تسأل: أنك لن تعوز المعاشرة لحفظ سلالة البشر إلاّ في الجيل الثالث الذي سيجعلك أبو البشرية المولودة من رحم النهاية الأولى.

بعد ساعة صمت سمح لك بها؛ تعاود تساؤلاتك مجدداً، غير أنه لم يسمح لأمدها أن يطول، تتوسل صبره أن يفعل، ولكن أوامره تسبقك بضرورة إيقاف عمل المركز نهائياً، يُحذرك من اقتراب علماء الكائنات التي أصبحت على بعد خطوة من الوصول إليكما. حين تنهي ما طلبه منك؛ يتوسلك هو هذه المرة أن لا تتوانى للحظة واحدة في المشي خلف تنوع شهقاته، توافق أهداب صمتك بعد أن أوكلت لها ذلك؛ وليست سوى لحظات لتصبح هيئتك محمولة على أكتاف ماضٍ لأيقونة مؤجلة، تتحسس صورتك في المرايا التي تودعها في طريقك للدفاع عن وجود بشرية أخرى، تتنوع مخيلتك بين ديناصور لأمٍ بشرية، غير أنك تقف على خربشات طفلك وقد رسم دباً قطبياً طائراً في جدار غرفته، تلقي تحيتك المحلقة بحثاً عن جسد صوته الذي خصك بهذا الشرف؛ تعده بزيارته ذات مساء رفقة أحفادك لتروي لهم ما حدث تحت هذه القبة يوماً.

تمر السنوات وتصل جهودك لخلق الجيل الثالث للجنس البشري، تستظل فرحتك تحت شجرة قدرة سلالتك من ممارسة حفظ نسلها بذات الطريقة التي عشتها قبل الكارثة العظيمة، تعود لهيئتك البشرية بالتزامن مع موت آخر تلك الكائنات الغازية، تكرر زيارتك تباعاً لذات المكان الذي تنوي تقديم أجيالك بين يدي صاحب الصوت الذي يستحق ثناءك، تضجر من تأجيل موتك؛ تتوقف عن سرد حكايتك دونما دليل وأنت تتنفس تكذيبك في رئتي أجيالك، تتساءل: من سيصدق أن صوتاً متخفياً تحت قبة حديدية أسهم في حق البشرية بالعيش مجدداً.

1xbet casino siteleri bahis siteleri