حرب، أزمة، صراع، نزاع عسكري ومسَلَّح، عنف؛ أطلق عليها ما شئت من الألقاب والأسماء لكنها في البداية والنهاية هي “إبادة” لأنها حرب عشوائية تُنتهك فيها القوانين الإنسانية وتُقام فيها المَجازر ويُسمح فيها المحظور. لا أحد يملك عقلا يستطيع أن ينكر هذا، غير جبان سطحي التفكير، استولى الاحتلال على دماغه فأصبح فكرة يمكن نقاشها، يتباهى باتهامه المقاومة بتحريك القطعة التي بعثرت الصورة، التي هي في الأصل لم يلملمها أحد، مُبعثرة منذ الأزل وبفعل فاعل قذر تجوز في حقه جميع الألقاب السيئة.
الإبادة نعرفها ويعرفها التاريخ قبلنا حق المعرفة، تاريخ حيّ ينبض ولا ينسى التفاصيل، يمارس فيها الاحتلال شتّى أنواع الاغتصاب التي يصعب للعقل استيعابها. فبين هذا يُدين بشدة الفعل الشّنيع وذاك يتخبّط وسْط يستنكر ويندد؛ يوجد مشهد مرعب، يفوق أكشن السينما، حتى لو أبدع مخرجو العالم وأمهَرهم لن يستطيعوا أن يُصوّروا مشهدا سنيمائيا كهذا المشهد الحقيقي الموجود على أرض الواقع، أرض الأبطال والشهداء.
أن يكون مواطنا فلسطينيا يعني أن ينام على صوت الطائرات فوق رأسه، ويستيقظ على صوت المدافع والمنازل مُدمَّرة بالكامل متراكمة، تسيل بين بقاياها وِديان من دماء الأبرياء أطفالا وشيوخا، والشهداء يفترشون الأرصفة بأثوابهم البيضاء.
فلسطيني معناه أن العجوز سيبكي والطفل يستشهد ويكون هدفا للاحتلال الفاسد، والمرأة يتم احتقارها بكل الطرق.
فلسطيني أخيرا يعني أن يكون مجاهدا في بطن أمه ويموت قبل أن يُقطع حبله السُّري دفاعا عن أرضه ووطنه. جدران تلك المنازل المدمّرة تحمل قصة عائلات، صرخة أول مولود، ومشاكسة آخر العنقود، تلك الجدران تحتفظ بأحاديث الجدِّ ورائحة طبخ الجدّة بطعم فلسطيني حقيقي وصدى صوت أباء وأمهات لا يتكرَّرون.
تُصبح الحياة شبه منعدمة وسط ذاك الدّمار لكن البطل متشبٍّت بها، وإذا انعدمت يبحث عنها في مكان آخر أكثر أمنا ولو نسبيا، وتكون المستشفيات والمدارس وجهته الأولى، ولأنه احتلال منتهك ومغتصب؛ يَقصف مصدر أمنه وأمانه وهو بريء، مدني، لا يحمل سلاحا ولا قنبلة، يلتحق الجرحى بالشهداء، هاربون من الموت إلى الموت، تختلف الطرق ولكنه موت واحد في النّهاية، ومن نجى سابقا بأُعجوبة يصبح جريحا، تُسحق عظامه، وتختفي ملامحه وتتشوه، وكل يوم هو مُعرض للقتل، لأن الموت أصبح حكاية دائمة وبدون نهاية، مع ذلك يتنفس، يقاوم، لا يعرف الاستسلام أو حمل العلم الأبيض يؤمن بقضيته متشبت بها وبأرضه
التي لم تشبع بعد من الدّماء، ومن حملها للجثث المتناثرة فوقها، منظر فظيع، بعد قصف الأبرياء والأمهات والآباء يُقصف كل ما تبقى من الذكريات، كل هذا يمر تحت صمت عربي نخجل نحن منه.
انتهاكات بالجملة لا يمكن عدّها وتفوق الحدود الأخلاقية؛ تُمنع قوافل المساعدات الإنسانية من الوصول، يُقطع الماء والكهرباء وأي شيء يجعلهم مُتّصلون بالعالم، بمعنى أوضح يُمنعون من الحياة، وهذا انتهاك صارخ لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدّولي.
مقالات مرتبطة
مشهد مُرعب أليس كذلك؟ ولكن الصورة أكثر رعبا من الكلمات. فكيف يعيش هذا الشعب، وما حالة صحته النفسية؟ ولكنه شعب سويٌّ يقف بثبات، شعب يبني نفسه بنفسه، يجدد الأمل الذي يعيش عليه، لم تمنعه الانفجارات من معانقة الحياة، لا ينتظر تنمية ذاتية تخفف من أثر الحرب أو طبيبا نفسيا يخترع له طريقة للعيش.
لا نملك حيلة نحن، ولا نستطيع تغيير الواقع، نملك فقط الدعاء والإيمان اليقين بعدل تلك القضية، نتعاطف من بعيد، هذا التعاطف أحيانا يكون بدقة، بعضنا يَختار الصورة الأكثر تأثيرا وفي نفس الوقت أقل رعبا لا يُريدها أن ترعب “مارك” وأصحابه، يُريدها فقط أن تُحرك إنسانية المسلم ومن لديه الشك في القضية، والبعض يُرفقها بقلوب مكسورة وأغنية لـ “جوليا بطرس” كتعبير عن الجهاد والمقاومة ولو من بعيد ويضعها على خاصية “الستوري”. تؤثر لمدة 24 ساعة وتختفي مع تأثيرها، هذا فعل لا يمكن التّبخيس منه، فعلى الأقل نحن جيل يستطيع الدفاع ومُلمّ بالحقائق المحيطة به، نُدرك أن التعريف بالقضية لا يقتل محتلا ولا يخرجه من تلك الأراضي الطيبة ولكن ينشر المعلومة، يعرف العالم بأسره بشاعة ما يرتكبه الكيان وكيف يغتصب براءة الطفولة، ويعدم الآخرين بدون سبب فقط ليُخرج بغضه وسوء طباعه.
متعبون، مجهدون، نقاوم، مُستمرون في المتابعة والنشر والمقاطعة، أحيانا نُحاول تجنب تلك الصُّور التي تصيبنا بكل أنواع العجز والألم، نستطيع بكبسة يد أن نُبعد المشهد عن أعيننا لأيام، ولكن هؤلاء الأطفال في غزة والمدن الأخرى التي تتساقط القذائف من فوقها، تلك الأم التي فقدت الأبناء، والعجوز الذي يضع ظهره على بقايا منزله، هؤلاء من يبعد المشاهد عنهم من يخرجهم من تلك الصورة العنيفة، المُدمَّرة، من يمسح مشاهد ذويهم وهم شهداء، نَعدّهم نحن من المحظوظين لأنّهم تمكنوا من النجاة.
هذا ما يبدو لنا لأننا نظن أن النجاة هو البقاء على قيد الحياة، في حين أن أصحاب تلك الأرض، النّجاة بالنسبة لهم هي أن يختفي ظل الاحتلال وأن تعود الأرض لأصحابها، أن تعود الزُّرقة المعتادة لسماء فلسطين، أن يسمعوا صوت الحرية والأمان بدل أصوات الحرب المُرعبة، وأن المحظوظ في نظرهم هو من استشهد لا يعاني أزمة بعد الحرب ولا صدمة الفُقدان، أو اضطرابا نفسيا.
بعد هذه الأحداث الحقيقية الأليمة، يأتي شعار السلام الذين يهتف به العالم منذ الأزل بصوت أشبه بأن يكون وهميا، يبدأ مسلسل المفاوضات بمباركة أطراف تدَّعي أنها تحمل همّ الأبرياء، تتكلم كثيرا وتُبدي سخطها على الوضع، بيانات استنكارية عدّة وخطابات بشتى اللغات، مؤيدون ومعارضون ومحايدون لا يحملون موقفا أو رأيا لا يعرفون الحق لمن هو أو بمعنى أوضح يتظاهرون بذلك. النتيجة هي هدوء وهمي يدعى “هدنة” ،يتحقق تحت طلب أطراف في لعبة “تفاوضات”.
هذه اللعبة تمزج بين من نيتهم السّلام ومن يطلقون على أنفسهم السّلام ويبالغون في ارتدائه كزيٍّ رسمي لهم وحدهم
وهل تنتهي الحرب، هل تختفي قوافل الشهداء؟ لا لن تنتهي، لأن النكبات أصبحت يومية في غزة، ومنظر الدماء والأشلاء في كل الأرجاء أصبح منظرا عاديا ومُعتادا عند الجميع وهذه أكبر كارثة يمكن أن تحدث بالموازاة مع الإبادة وهي أن يعتاد العالم هذا المشهد بلون الدماء، ومتى تنتهي ويتحقق السلام؟
ستنتهي الحرب كما قال أحدهم من وسط الدمار؛ “عندما يسألنا أطفالنا يوما ما باستغراب ماذا تعني حرب؟” ستنتهي يوما ما، يظهر الحق وتعود الأراضي لأصحابها، ستحتفل ونحتفل نحن بذاك الانتصار، وستفتخر الأطراف العربية المسلمة الصامتة الآن والمُكبلة أياديها بهذا الانتصار، وتعتبره انتصارا لها أيضا وتبريرهم دم العروبة الذي يجري في عروقهم، هذا الدم الذي لم يحرك فيها ساكنا، أمام هذه المشاهد العنيفة التي تقشعر لها الأبدان.
سينتصر الشعب الحديدي يوما، لأنها حرب للعيش بكرامة ولأن للكرامة ثمن باهض.