غزة تحت مجهر ماسلو

تزامنت نهاية سنة 2023 مع أبشع اعتداء نعايشه في جيلنا يستهدف إخواننا في غزة منذ أزيد من ثمانين يوما في حرب إبادة وحشية فتحت أعين الكثيرين على حقائق صادمة حول العالم الذي نعيش فيه. ساهمت الأحداث الحالية بشكل كبير في تغيير نظرة كثير من الناس إلى الحياة بأحلامها وطموحاتها وأولوياتها، حتى إن هذه الفترة منذ اندلاع الحرب، إن صحت تسميتها بهذا الاسم، عرفت دخول العديد من غير المسلمين في دين الإسلام.

من عادة بعض الناس نهاية كل سنة، القيام بتقييم لإنجازاتهم خلالها ثم التخطيط للسنة المقبلة من أجل تحسين جودة الحياة في كل مناحيها؛ وتنبع رغبة الإنسان في تحقيق توازن في جوانب حياته المختلفة من احتياجاته التي لخصها أبراهام ماسلو، اليهودي للمفارقة، في هرمه الشهير.

وأنت تخطط لسنتك الجديدة، ساعيا لتلبية احتياجاتك الإنسانية، ضع أمام نصب عينيك ما يلي:
1. الحاجات الفسيولوجية
بينما تحتل مجموعة من الكماليات حيزا مهما من لائحة احتياجاتك للطعام ولا تستطيع الاستغناء عن علامات تجارية تصرح علانية بتمويلها للمجرمين الذين يقتلون إخوانك، وتتساءل عن بدائل لمنتجات ضررها أكثر من نفعها، تذكر أن العالم يقف عاجزا عن إدخال قنينة ماء إلى غزة، وأن الصغار يصطفون طوابير لا منتهية حاملين أوعية علهم يحظون بحفنة من الطعام يعودون لتقاسمها مع مجموعة من الأفواه الجائعة.

بينما تتقلب على فراشك الوثير أرقا في الليل فقط لأنك غيرت مكان نومك المعتاد أو أقلقت بعوضة هدوء الصمت من حولك، تذكر أن آلاف الأشخاص يفترشون العراء تحت أصوات القصف والطائرات الزنانة. بينما تشتكي من برودة الجو عند أخذ حمامك، تذكر أن مئات من الناس يقفون بالساعات في انتظار الدخول إلى المرحاض في ظل انعدام الماء وشروط النظافة. ومع ذلك تجد أهل غزة صابرين تلهج ألسنتهم بالحمد في الوقت الذي تسخط أنت فيه عند أبسط مشكلة.

2− الحاجة للأمان
إن كان ثمة إحساس مفقود في غزة الآن فهو الإحساس بالأمان. كيف يحس بالأمان من يسمع أصوات القصف على مدار الساعة، وتسقط أمامه أكوام من الجثث تتضرج الشوارع بشلالات من دمائها؟ الإحساس بالأمان يشمل بالإضافة إلى الأمن الجسدي، الأمن الأسري والصحي والوظيفي.

في غزة يصبح الطفل يتيما وتمسي الأم ثكلى، يفقد المرء أفراد أسرته وعائلته بالجملة، فأين الأمن الأسري في هذا؟ في غزة تجرى عمليات البتر دون بنج لانعدام الأدوية، تقصف المستشفيات وتنقل الجثث على عربات الحمير، فأين الأمن الصحي في هذا؟ في غزة لم تعد هناك وظائف ولا مقرات عمل، لم تعد هناك سلع للبيع ولا نقود للشراء، فأين الأمن الوظيفي في هذا؟ ومع ذلك تجد أهل غزة مطمئنين بالله موقنين بوعده في الوقت الذي تسخط أنت فيه عند أبسط مشكلة.

3. الحاجات الاجتماعية
يحتاج الإنسان بطبعه للانتماء والحب، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا وسط محيط مقرب من الأسرة والعائلة والأصدقاء. لا شك أن كثيرا منا جرب شعور الفقد والجرح الغائر الذي يخلفه موت شخص مقرب، ففقدان والد أو أخ أو صديق كفيل بجعلك تدخل في دوامة من الحزن لمدة شهور ترافقك ندوب جرحها مدى حياتك.

في غزة يعاش هذا الإحساس بالجملة، حيث يفقد المرء أحبته بقصفة واحدة، ويكون محظوظا لو استطاع تجميع أشلائهم من تحت الأنقاض وإلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليهم؛ وحتى هذا يحرم منه في كثير من الأحيان. في غزة تتلقى أم أكثر من خمسمائة حقنة من أجل إنجاب طفل لا تكاد تفرح به شهورا حتى تجده جثة هامدة بين ذراعيها. في غزة يجري أب بأشلاء ابنه الممزقة بعدما جمعها في كيس بلاستيكي أسود يجاهد المتبجحون من حماة الإنسان والحيوان والجن من أجل منع استخدامه لضرره على البيئة.

في غزة يستيقظ رضيع تم انتشاله من بين الأنقاض باحثا بعينيه الصغيرتين على الحضن الدافئ لأمه التي استشهدت هي وباقي أفراد الأسرة والعائلة. ومع ذلك تجد لسان أهل غزة يلهج بالحمد والرضا بقضاء الله في الوقت الذي تتساءل فيه أنت عندما يحصل مكروه لحبيب لك “لم حدث هذا لي أنا؟”.

4. الحاجة للتقدير
يحتاج الإنسان للتقدير الذاتي والتقدير من الآخرين، والثاني يساعد على تعزيز الأول. في الوقت الذي يتعرض فيه قطاع غزة لأبشع الجرائم، بدأ العديد من الناس باختلاف انتماءاتهم ودياناتهم يسعون للبحث عن الحقيقة بعيدا عن إعلامهم الموجه الذي حرص منذ سنين على زرع فكرة واحدة في أذهانهم: إسرائيل صاحبة حق والمسلمون إرهابيون.

عبرت الكثير من الشعوب عن دعمها ورفضها للعدوان الهمجي، إلا أن المواقف الرسمية للكثير من الدول أظهرت تواطؤا مفضوحا مغلفا بصمت مقيت أمام ما يحصل واستسلام خنيع للكيان الوهمي. ومع ذلك، يظل جانب تقدير الذات مرتفعا عند أهل غزة لإيمانهم العالي وحسن ظنهم بالله، ويتجلى للعالم إقبالهم على الحياة وسط الدمار رغم اللون القاتم الذي اصطبغ به ماضيهم وحاضرهم، في الوقت الذي تكتئب فيه أنت لمجرد فشلك في أمر بسيط من أمور الحياة.

5. الحاجة لتحقيق الذات
عندما تستكمل شخصية الإنسان نموها وتحقق الحاجيات الأربع السابقة. يحتاج أن يطور مهاراته ويحس بقيمته المضافة، وهذا ما يحققه عادة عن طريق دراسته وعمله وأدواره في المجتمع. في خضم الحرب والقصف، لم تعد هناك مدارس يذهب إليها الطلاب والمدرسون ولا إدارات يشتغل بها الموظفون، ولا سلع تدخل للقطاع، وحتى المستشفيات قصف أغلبها بأطقمه ومرضاه.

ومع ذلك، نجد الناس أطفالا وشبابا، رجالا ونساء يقدمون ملحمة في العطاء والتعاون والتآزر، يبدعون في اختراعات بديلة بالوسائل المتوفرة لتلبية بعض حاجياتهم، لا يملون من السعي في الوقت الذي تتأفف فيه أنت من المداومة كل صباح للعمل.
ويظل سكان غزة يقدمون لنا كل يوم دروسا تطبيقية عملية في كل مناحي الحياة، ويثبتون لنا ولماسلو وللعالم أن هرمهم شامخ مهما حاول المعتدون هدم طوابقه الخمسة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri