خمسة حقائق وضحها طوفان الأقصى

نعيش منذ اليوم السابع من أكتوبر أهم فصل نعاصره في فصول القضية الفلسطينية، حيث سرعان ما اختفت الدهشة التي اعترتنا في بداية طوفان الأقصى لتحل محلها تشكيلة من المشاعر المختلطة، بين أمل بالتحرير وألم على الأرواح التي تتساقط تباعا، وفخر بأطفال وشباب ونساء ورجال غزة، وخجل من تقاعس صناع القرار ومن عجزنا أمام ما يحصل.

الحرب مصطلح بغيض يخط بالدماء على كتب التاريخ، لكن أبغض منه وأبشع منه أن يعمد محتل جائر إلى قتل آلاف المدنيين نصفهم أطفال، فما يفعله الكيان الجبان الآن لا يرقى لأن يسمى حربا. من يتأمل في الأحداث الحالية لا بد أن تنقشع عن عينيه الغشاوة التي كانت تحجب عنه بعض الحقائق أو تضبب رؤيتها، إلا إن كان صهيونيا أو حيوانا مجردا من الإنسانية أو معتوها لا يملك ذرة تمييز:

الحقيقة الأولى: الجيش الذي لا يقهر مجرد أكذوبة!
مضت إلى حدود كتابة هذا المقال ثمانية وأربعون يوما من القصف المستمر على غزة مع ثلاثة أيام من الهدنة في إطار هدنة الأيام الأربعة التي تم الاتفاق عليها مقابل تبادل للأسرى بين الطرفين وإدخال شاحنات المساعدات إلى قطاع غزة. تهاوت خلال هذه المدة كل مبررات إسرائيل للقصف الجنوني الذي مارسته على المنازل والمستشفيات والمدارس، مستهدفة كل ما يدب على أراضي غزة بدعوى محاربة الإرهاب الذي هو حماس.

واحد و خمسون يوما لم يتمكن خلالها الجيش الذي لا يقهر من أن يكشف مكان جندي واحد من مقاتلي المقاومة، فيما دمرت هذه الأخيرة ما يزيد عن ثلاثمائة آلية بعتادها وجنودها من مسافة صفر في عيني العدو. واحد وخمسون يوما لم يحقق فيها الجيش الذي لا يقهر هدفا من أهداف الحرب التي أعلن عنها، ولم يحرر فيها أسيرا واحدا من أيدي المقاومة، بل اضطر إلى الخضوع لشروط حماس في صفقة تبادل أسرى تم خلالها اليوم، وهو اليوم الثالث من الهدنة، تسليم الأسرى الإسرائليين في عقر شمال غزة بعدما دكه المجرمون دكا ومشطوه تمشيطا بجنودهم وطائراتهم ووسائل تجسسهم، ليتبين أن أسراهم كانوا ولا يزالون هناك، لكن الله جعل من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فهم لا يبصرون.

حاول الأغبياء حفظ ماء الوجه عن طريق فبركة فيديوهات عن أدلة وجدوها بمستشفى الشفاء الذي رابطت حوله دباباتهم وعاث فيه جنودهم فسادا وهم يقسمون بأغلظ الأيمان أنهم متأكدون من أن المقاومة تتخذ منه مخبأ، فتفتقت عبقرياتهم عن أفكار جهنمية لتلفيقات أدلة من قبيل وضع أسلحة بجوار جهاز الرنين المغناطيسي، وتصوير مصاعد على أنها أنفاق، والتوجس من رضاعات وحفاظات أطفال، واتهام أيام الأسبوع بالتناوب على حراسة القواعد العسكرية…، وكل ما أثبتوه من كل هذا هو غباؤهم وفشلهم في التصميم والمونتاج بقدر فشلهم العسكري.

الحقيقة الثانية: الغرب العادل مجرد صورة وهمية!
الكثير من الشباب العربي يحلم أن تغمر مياه شواطئ أوروبا أصابع قدميه عندما يصل إلى أرض الأحلام التي ينتشر فيها العدل إلى جانب توفر سبل الرفاهية والعيش الكريم والحرية… وكل الشعارات الرنانة التي يتبجح بها العالم الغربي في المحافل الدولية والمؤتمرات العالمية.

لكن الجزء المغمور من جبل الجليد يخفي خلفه ما قد يجعله يقبل كل ذرة تراب في بلده الذي حتى وإن كان بدوره يفتقر إلى ما ذكرنا، فإنه يبقى على الأقل وطنه الذي يعبق كل شبر فيه برائحة أجداده، والذي طبعت على صفحات تاريخه بصمات هويته.
تكاد لا تخلو نشرة أخبار من أسماء منظمات وهيئات تدعي الدفاع عن حقوق الدول والأفراد والسعي إلى تحقيق العدل والمساواة، كالأمم المتحدة التي لا يتحد مجلس أمنها إلا على ما يضمن مصالح خمس دول في مسرحية هزلية توهم باقي دول العالم أنهم مشاركون فيها، فيما لا تتعدى أدوارهم أدوار كومبارس يضفي بعض الصبغة الشرعية عليها شكلا لا مضمونا.

ما يحدث الآن في غزة فتح أعين الكثيرين من الذين كانوا يعيشون في غفلة عن السياسة العالمية على أن العالم الغربي لا أخلاق ولا قيم له سوى الدولار، وأنه يفصل القوانين تفصيلا بما يخدم مصالحه رغم أنه يحرص على زركشتها بما يوهم العامة بخدمتها للصالح العام لجموع البلاد والعباد.

الحقيقة الثالثة: هناك أمل في الجيل الحالي من الشباب العربي!
يعيش شباب الجيل الحالي أزمة هوية شديدة، فبينما رضع جيلنا القضية الفلسطينية في الصغر مع أغاني الانتفاضة وأشعار محمود درويش وإبراهيم طوقان، غابت القضية عن الموروث الثقافي الذي مرره جيلنا للجيل الحالي، سيما مع انتشار التفاهة على مواقع التواصل الاجتماعي وابتعاد أغلب الشباب عن القراءة والاطلاع. وفي الحقيقة، فإن جيلنا يتحمل المسؤولية الكبرى فيما حصل من تغييب للقضية الفلسطينية في قلوب وعقول الجيل الحالي من الشباب.

لكن ما يحدث الآن بغزة مكن من تدارك سنوات الغياب هذه وكأنه أعطى لشباب العالم العربي والإسلامي، بل وشباب العالم، دروسا مكثفة في كل ما فاته خلال السنوات الماضية، ففتح عينيه على الحقيقة، وسطر أمامه بوضوح مشاهد القضية التي ما فتئ الإعلام يضلل ملامحها.

ما يحدث الآن بغزة أحيا في الشباب العربي والإسلامي جينات الهوية التي ظل يحملها خلال سنوات الكمون وخلال تقصيرنا في دورنا في إرضاعه إياها كما رضعها أبناء غزة وفلسطين من آبائهم. الكثير من أبناء جيل التكتوك والترندات انخرط في نصرة القضية وبرهن أنه لم يختر امتهان التفاهة في الزمن الحالي، بل كان ضحية لعملية ممنهجة من غسيل أدمغة وقلوب بما تحمله من هويات وقيم ومبادئ.

الحقيقة الرابعة: الفلسطينيون لم يبيعوا أرضهم!
حاول الإعلام طوال خمسة وسبعين سنة من الاحتلال ترسيخ فكرة أن الفلسطينيين هم من باعوا أرضهم، واقتنع الكثير بهذه الفكرة لدرجة أسقطت من عيونهم مشروعية مطالبة الفلسطينيين باسترجاع أراضيهم أو مطالبة النازحين منهم بحقهم في العودة.

ظلت غزة تلك الشوكة في حلق إسرائيل، التي ما فتئت تبرهن بعد كل عدوان على أن أبناء فلسطين لم ولن يفرطوا في أراضيهم مهما طال زمن الاحتلال، ومهما زادت بشاعة الإجرام الممارس في حقهم، ومهما اضطر بعضهم إلى النزوح بعيدا سواء داخل فلسطين أو خارجها.

شاهدنا أناسا دمرت منازلهم وفقدوا أحباءهم بل جمعوا أشلاءهم في أكياس، لكن لسانهم يلهج بالحمد صبرا على الابتلاء، وقلوبهم تمتلئ بالأمل في التحرير، رافضين مغادرة أراضيهم، ومؤمنين بأنهم أصحاب حق.

لم يبع الفلسطينيون أراضيهم، بل توارثوا مفاتيح منازلهم جيلا بعد جيل أملا في أنهم يوما ما سيرجعون. وسيرجعون لأن الحقيقة الخامسة التي كشف عنها طوفان الأقصى هو أن تحرير فلسطين كلها من البحر إلى النهر ممكن.

1xbet casino siteleri bahis siteleri