نوستالجيا الحواس

هل سبق أن شممت رائحة وأعادتك عشرات السنين للوراء؟ قد تبدو للمارين مجرد رائحة عادية لكنها استوقفت جوارحك وحملتك مرغما لطفولتك الغابرة. هل عصفت بمشاعرك كلمات سمعتها صدفة؟ أو هزت صلابتك البادية رائحة نسيم الصباح لتعيدك لمنزل جدتك البسيط؟ وتوقظ في قلبك آلاف الذكريات المنسية؟

مشهد حضن طفلة مع أبيها كفيل أن يوقظ فيك إهمال طفولتك البائسة وحزنك الغابر، ذلك الطفل الذي ظنت إنجازات شبابك وكهولتك أنها قد أشفت غليله وداوت قليلا من جراح قلبه العليل، لا زال يحمل لعبه المكسورة وعواطفه المتهالكة معك مطالبا إياك بالقصاص له؛ أغنية واحدة كفيلة لإرجاعك نحو أيام صباك لخفقات قلبك الأولى وتلعثمك وصوت حبك البريء، لخجلك وفرحتك العارمتين مع بداية لهفة قلبك.

وجه ذلك الغريب الذي استوقفك ذلك المساء، ذلك الشبه العجيب مع أخيك المغترب منذ سنوات؛ قد أشعل في قلبك نار الاشتياق والحنين واخترقت ملامحه قلبك وكيانك دونما استئذان؛ رائحة الصباح الممتزجة بالقهوة المعطرة بالأعشاب تحملك إلى قريتك البعيدة حيث كنت طفلا لا يستهويه إلا الركض واللعب.

للحواس ارتباط غريب بالذاكرة كلما قطعت أشواطا من النسيان وظننت أنك تخلصت من أشباح ماضيك إلا وهزتك ذكرياتك المستيقظة هزا وأعلنت عليك الحرب تؤلمنا الذكريات سواء كانت سعيدة أو حزينة نشعر بالحنين لذواتنا السابقة لبراءتنا وعذرية تجاربنا الأولى، كلما تقدمنا في العمر نترك خلفنا أطنانا من الصور والمشاهد، أينما حللنا يرافقنا الحنين وتتقاذفنا ذاكرة الحواس.

نرغب دوما بالرجوع لمراحلنا العمرية السابقة مهما كان ما عشناه خلالها، تأففنا المستمر من الدراسة أيام الامتحانات يعادل اليوم شوقنا لرفاق الدراسة، أتعجب كيف يستطيع أغلب الناس الانسلاخ من ذكرياتهم، كيف يضعونك في طي النسيان فور انتهاء صلاحيتك؟

أنا أظل وفيا للمواقف وغارقا في الأحداث، أحن لعبق الماضي وضحكات الرفاق وقهقهات البشر، لموسيقى أطربتنا معا، لآهات تشاركناها ولهموم غدت أخف بحلاوة الحديث. لطالما كان الرحيل مؤلما وسيظل محيرا بالنسبة لي، كيف يبيع بعض البشر ودك دون عناء؟ كيف يسهل عليهم التخلص منك كما لو كنت غرضا من الأشياء؟ فالمجد كل المجد للأوفياء في ظل مادية هذا العصر المقيت. كيف يلغونك من لائحة حياتهم يخرجونك قصرا تاركين لك عبق الذكرى وألم الغياب؟ تنقضي في ذاكرتهم بانقضاء أيامهم معك ثم تعود شفافا لا ترى تعود غريبا كما كنت تعامل برسمية مخيفة أو لا تعامل على الإطلاق.

مهما انسلخ البشر من الماضي وتملصوا منه فللحواس ذاكرتها القوية حاضرة على الدوام، تؤرجحنا بين تعاساتنا وسعاداتنا الماضية، تفرض ثقلها علينا وكلما أردنا العصيان وتباهينا بالقدرة على النسيان وسرعة التعافي تعبث بنا كمغترب يحاول جاهدا طي صفحة الوطن البائس وغربة الاهل وخذلان الرفاق.

1xbet casino siteleri bahis siteleri