أمومة شاذّة

وفاءً بما تعاهدنا عليه أول يوم حملتك بين يدي بعد عناء سائغ وتقتير شديد على عدم بقائك دون ماء المشيمة الذي اعتدته، خوف فقدانك قبل وصولك إلى بر الأمان بسبب نزيف مفاجئ أو التفاف الحبل السري على رقبتك. وعياء نتج من فرط التفكير، قيصرية أم طبيعية، سهلة أم صعبة، يومها ظننت أن العناء سينتهي بانتهاء ألم الولادة، نعم انتهى الألم الأصغر استعدادا للألم الأعظم.

نظرت إلي نظرة مكر، تمتزج بين الدفء والتوعد، تتوعد لي بالمزيد من المتاعب، لا نعرف بعضنا غريبان امرأة تجاري فداحة واضطهاد العالم وأشباحه، وجنين ناضج قُدم كمخلوق جديد جاء ليتعرف على فظاعة العالم بقلب سليم سيفطر شاءَ أم أبى مع توالي الخيبات، لن أنسى أول نظرة أول لمسة أول قبلة أول ابتسامة أول حرف لفظتَه… إلى الممات، حتى وإن أصابني الخرف والزهايمر، لن أنسى ما تعلمت منك ومعك، لن أنسى أول صرخة صدمة بحياة لم تألفها.

اليوم عيد الأم، يوم تكريمها الواهن، يوم يستغله الأبناء للتكفير عن خطاياهم تجاه المعجزة ببعض عبارة شكر بالية. في هذا اليوم العظيم عمن سنتحدث؟ هل عن راضية التي تعمل كمساعدة في أشغال البيوت وأحيانا عاملة نظافة في مكتب للمحاسبة، تتجه كل صباح للعمل بجلباب رهيف فوقه معطف بال لكنه يوفي بالغرض يحميها صقيع الشتاء، تلك التي تحمل معها خيبة ابن مراهق في الطريق إلى الانحراف وعنف زوج مقرف حي ميت يعرف فقط الدهس والرفس، تُحَمِّل نفسها مسؤولية جهلها للأمور وفقرها المدقع، فهي لم تختر مصيرها ولا ابنيها المنحرف ولا تلك الأمومة الشاذة.

أتذكر جيدا ذلك اليوم صباح الجمعة وجدتها تشتكي من مصائب ابنها المدمن للمتدربات التي كنت واحدة منهن، بكت بحرقة وقهر إلى أن اختنقت، أسرعت لجلب الماء واستوقفتني مرآة الحائط ونظرت لأحمر شفاهي بدمعة تحجب نفسها عن السقوط وابتسامة قوية وتساءلت ما الفائدة منه ونساء وأمهات العالم لا وزالت تعاني.

مقالات مرتبطة

هل نتحدث عن لمياء خريجة معهد التمريض وصاحبة قلم ذهبي، لغت لمياء نفسها، عملها الذي لطالما حلمت به، موهبتها التي يتمناها الآخرون، وهبت نفسها لأطفالها وزوجها الطيب الميسور، تألقت لمياء كأم، حرصت على أدق تفاصيلهم، هم يتألقون وهي تختفي، تحمل نفسها كل ليلة وتختبئ في المطبخ وتبكي كأرملة جرداء من ألم إلغاء الذات وصعوبة التلاشي والذوبان والاختفاء.

أم سنتحدث عن الحاجة مينة امرأة تجاوزت الثمانون، سيدة جبارة تتقن الكلام النبيه بحكم الأمس، تعد رمزا في الكفاح والنضال السلمي، لباسها العتيق ووجهها المريح الذي تخفيه بثوب أملس، بشوشة وتجيد العطاء بشكل مريب، كانت دوماً تسبقني وتجلس في كرسي تاركتا مكان لي، أول لقاء كان عبارة عن ابتسامة خجولة ثم سلام ثم ساعات من الحديث الثمين في حديقة بلا أزهار. تنزع الثوب عن وجهها وتظهر تجاعيد خلفت من ورائها قصص وآلام، ذات يوم حدثتني عن ابنها المتوفي، أحسست ببحة في صوتها لم أعتدها وهي تحكي لي عن ألم موت ابنها البكر قبلهَا وفراقهما لكي يدرس خارج أرض الوطن وانشغاله بالحياة حيث غدت علاقتهما باردة بلا حنين، تستعيد قوامها من خلال بعض الاتصالات الهاتفية تكون هي المتصلة على الدوام، لم يستوف قلبها الضعيف منه، أطلقت لجام الدموع وانذرفت دموعها العزيزة وبعدها ابتسمت لإحدى ذكراه الجميلة.

تتشارك النساء والأمهات في التضحية والعطاء والمنح والحب والحنان، تمثّل لهن الحب على شكل طفل، فأفرط في الحب حتى غد بِعَدْلِهِ على قلبهن المتعب، تمنح وتعطي وتأخذ بالمقابل التجاهل والعنف اللفظي. الأمومة عبء ثقيل على أكتاف نساء لم يخترنه فرضت عليهم فلنهون على قلوبهم الطيبة.

مهما بلغ مقدار ردنا لجميلهن لن يوفي حتى الربع على الأقل ليكن تعاملنا معهن حسن ولا نفرغ غضبنا في وجوههن ونستغل ضعفهن اتجاهنا، لنجبر قلوبهن الظافرة بالحياة والحب والمنح.

جميع أمهات العالم أمهاتنا، وإن لم تكن ابن رحمها، لما لا تكون بلسم الروح لها وتغمرها بلطفك الذي قد تكون في أمس الحاجة له، من واجبنا الإحسان لجميع المعجزات وليس فقد معجزتنا التي نحبها.

1xbet casino siteleri bahis siteleri