شيفرة بلال، أكثر من مجرد شيفرة
قبل حوالي أربع سنوات كانت لي رحلة مع رواية شيفرة بلال، أتذكر أني أنهيت قراءتها على الساعة الثالثة والنصف صباحا في ليلة من ليالي السبت الهادئة، كانت السماء صافية بنجوم براقة، السكون يعم الأرجاء، أسمع بين الفينة والأخرى صوت مشي أقدام لأناس ما زال الليل يأخذ منهم، يبتعد الصوت شيئا فشيئا ويتلاشى وسط الهدوء. تنزل من العين دمعة حين أستشعر بكل جوارحي كلمات الشيفرة: أحدٌ أحد.
حملت قلما، فتحت الصفحة الأولى من الكتاب وخططت: شيفرة بلال شيفرة الخروج من العبودية إلى الحرية لكل إنسان، اقتل أمية الذي بداخلك. كانت هذه الكلمات القلائل تُكتب دون شعور مني، وعقلي حينها ما يزال يفكر في بطل الرواية الصغير بلال ذو الاثنتا عشرة سنة المتوفى بعد إصابته بسرطان نادر نسبة العلاج منه صفر بالمئة. يبدو الأمر محزنا أليس كذلك؟ نعم الظاهر أنه محزن، لكن لو عرفت كيف ترك بلال هذا العالم بعد موته لتملكك شعور بالحزن على نفسك لا عليه كما وقع معي تماما.
“رحل فلان لكنه ترك الأثر” ربما سمعت هذه العبارة سابقا كما سمعتها أيضا أو ربما سعيت لتكون الشخص صاحب الأثر كما سعيت لذلك أيضا، لكن لو عرفتَ شيفرة بلال -أثره الذي خلف- لانقلبت موازين الأثر عندك كما حصل معي تماماً.
بداية القصة قد تبدو بسيطة جدا، طفل أمريكي يبلغ من العمر اثنتا عشرة سنة مصاب بسرطان نادر، يرى بالصدفة إحدى اللافتات الإعلانية لفيلم يتحدث عن الصحابي بلال بن رباح، ينتبه أن هذا الاسم يشبه اسمه، وقلما يلتقي بشخص يحمل نفس اسمه في مجتمع غربي كالمجتمع الأمريكي، يفكر في مراسلة كاتب سيناريو الفيلم ويطلب منه أن يمده بسكريبت الفيلم، يقبل كاتب السيناريو ذلك. فتكون تلك بداية بلال لترك الأثر الراسخ ولتغيير العالم.
ربما كما جاء على الملخص في ظهْر الكتاب أننا نعرف قصة بلال بن رباح، نعرف ما عانى من ويلات العبودية على يد سيده آنذاك أمية بن خلف، نعرف قصة الصخرة التي وُضعت على صدره تعذيبا ومنعا له من الاستمرار في حمل رسالة التوحيد، نعرف سلاحه الخالد (أحد أحد) الذي واجه به العذاب تحت الصخرة وأبى أن ينكسر ونعرف كذلك لحظة فتح مكة وصعوده التاريخي فوق ظهر الكعبة الشريفة ليصدح برسالة الإسلام إلى العالمين وهو يؤذن بصوته الندي (الله أكبر الله أكبر). ربما نعرف كل هذا حقا لكن لم يتغير فينا شيء، بلال الصغير أيضا عرف هذا حين قرأ سيناريو الفيلم إلا أنه عرف ولزِم، عرف وترك الأثر.
بلال الصغير مكتشف هذه الشيفرة كتب رسائل عميقة المعنى إلى وجهات عديدة ومختلفة. كتب رسالة إلى بلال بن رباح وليس أصدق من رسالة تعرف أنها لن تصل إلى صاحبها على الأقل بالموازين الدنيوية. كتب رسالة إلى الله وليس أدعى للتأمل من رسالة يكون المرسل إليه معك في كل كلمة تكتبها بل يعرف رسالتك قبل أن تكتبها أصلا سبحانه. كتب رسالة إلى والده الذي تخلى عنه منذ نعومة أظافره ولم يفكر به يوما قط، وكم شجاع أن تكتب لمن تخلى عنك دون رحمة وأنت الذي كنت تحتاج حينئذ من يرحمك، خصوصا لو كان هذا الشخص والدك. كتب رسالة إلى أمه أيضا التي كانت له الأم والأب وكم نبيل وشهم أن تعترف بالحب وجميل الصنيع لأحد خصوصا لو كان هذا الشخص أمك. كتب رسالة إلى أمية بن خلف، كتب رسالة لأنف صديقه جون الذي كسره بعد أن ظل جون يضايقه لسنوات، كتب رسالة لمرض السرطان أيضا، تخيلوا؟! وما أشجع الذي يكتب للعدو ويٌبلغه أن قد انتصر عليه بعد معركة شريفة على الأقل منه إن لم تكن من الطرفين معاً. بلال أيضا كتب رسالة إلى نفسه، في رأيي هذه أهم رسالة قد يكتبها الإنسان في حياته لأنها ببساطة رسالة التغيير، رسالة الأثر.
شيفرة بلال التي تمكنت من تفكيكها من رسالاته كانت كفيلة أن توضح لي بجلاء المعنى الحقيقي للعيش بمنطق الفراشة، التي تعيش ثلاثة أيام فقط لكن تغمر الكون جمالا وبهاءً. علمتني شيفرة بلال أن منطقة اللاخيار التي أترجمها بمقياس الحياة إلى المشاكل والمعيقات هي المنطقة الأمثل للخلق والإبداع. نبهتني للفرق بين رغبة الحياة ورغبة الموت، فرغبة الحياة تتمثل في أن تكون مؤثرا وعظيما أما رغبة الموت فهي أن تنعم بإنجازات المؤثرين والعظماء. وأخبرتني أن ترك الأثر رهين بالخروج من العبودية إلى الحرية، وهو خيار بيد صاحبه إن تمكن من قتل أمية الذي بداخله.