الثقافة الخادعة

مشاهد متعددة من حياتنا اليومية تبرهن على أننا لم نعد بالجيل المحافظ على أصوله إلا في حالات نادرة (كمثال الحفلات المُقامة لإحياء ذكرى وطنية)، ونزيد على ذلك بأن نتطفل على ثقافات ليس لنا شأن فيها ولا لأجدادنا يدٌ في إرساء قواعدها.

لم يأت هذا الكلام عبثا أو هجوما عنيفا من فراغ، وإنما بعد انتشار ما يمكن تسميته بالفرنسة الإجبارية، إذ أصبح اعتماد اللغة الفرنسية -على سبيل المثال وليس الحصر- دليلاً قويا على غنى ثقافة الفرد أيا كان مستواه، بل إن ايراد كلمة أو كلمتين في حديثك بلغة أجنبية، حتى ولو كانت الكلمة خاطئة أو كنت قد كررتها مرارا، فإن ذلك يعكس رُقِيَّك وسمو رصيدك المعرفي.

في إحدى العروض الكوميدية، قال أحد الكوميديين إن أُسراً متعددة تعمد إلى اللجوء للغة الفرنسية كلبنة أساسية في تربية الأبناء، وأن ذلك دليل على حسن التربية مهما اختلفت درجة هذه التربية بين الدُّنو والرفعة. وهو ما يثير حفيظة المتشبثين بأصلهم فكرا وثقافة ووعيا، كونهم يحرصون على تلقين الأصول حرفاً حرفاً قبل الاستيراد من الثقافات الأجنبية.

هنا يدق الأذهانَ تساؤل غاية في الأهمية: إلى متى سنظل سجناء لهذه الثقافة الخادعة؟ وهل بحق نحن بهذا الفقر لنبحث عن بديلٍ يغنينا؟ لطالما كانت اللغة الأم لغة المقاومة، هي السلاح الذي اعتمده أبناؤها شعراء وروائيين دفاعاً عن أرضهم، وما انزاحوا في ذلك إلى لغة المستعمر، إنه سعي وراء تبديد أي بديل للغة الأصلية؛ يقول خوسيه ريزال -الروائي القومي الفلبيني- كتلخيص لما فات ولكل ما هو آت: “إن الرجل الذي لا يحب لغته الأم أسوء من حيوان أو سمكة نتنة.”

قد تتساءل أننا في زمن تقديس المادية، أي دور للغة العربية في كل ذلك؟ هل إتقاني للعربية سيزيد راتبي أضعافا كما هو الشأن بالنسبة للإنجليزية وأخواتها؟ أقول لك وإن لم يكن جوابا شافيا: لا يمكن تقييم كل شيء بما ينتجه من مادة؛ إذ تقبع في دواخلنا مناطق لا ندركها وهي تتغدى بالحب والحنان والذكريات، بكل ما لا يُجرَّد وتبقى قدسيته أن لا يمسه أحد. ومن ذلك الحب الذي نكنه للغة الموطن والمنشأ، الاعتزاز الذي يجعل جوارحك ثابتة لا تهتز أمام إهانة أجنبي أو متسلط!

قد تقول: كيف نبني هذا الحب؟ وإن كان فطريا، أين نجده؟ أقول: تجده في كل بقعة من نفسك، توقفْ لحظة وتأمل عند بناء أفكارك وخيالك بينك وبين ذاتك، هل تفكر بلغتك الأم بادئ الأمر -لا إراديا- أم تفكر باللغة التي أنت بصدد تعلمها؟ تجده في امتلاء نفسك عزًّا عند سماع النشيد الوطني بعد انتصار فريقك في إحدى مباراياته، أو حزناً عند سماع تصريحات أبناء بلدك مذيّلة بكلمة “لاجئ” في نشرة الأخبار؛ تجده عند قراءة الصحف، المجلات أو الروايات وتتساءل : ما مرادف هذه الكلمة باللغة العربية؟ وهل كانت لتكون أجمل لو أنها وُظِّفت في نفس السياق ولكن عربيا؟ تجده بين الطاولات على مطعم أجنبي حين تلامس ذاكرتك روائح مألوفة، وتبدأ بتعداد أسماء المأكولات الشعبية لبلدك برغبة منك أو بدونها، ستجده في الكثير والكثير، فقط ابحث! أن تصير جزءا من القرية الصغيرة التي أصبحها العالم يعني أن تؤثر وتتأثر، أي أنه تأثير في المنحيين، لا أن تكون مجرد أصداءٍ لفقاعات ثقافة زائلة.

أخيراً، ليس هدفي هنا أن أدعو إلى حظر تعلم اللغات الأجنبية أو ممارستها، وإنما حظر التجارة بها -إن صح التعبير- اتباعا لأهواء شخصية، والبداية من الأصل الذي هو تعلم اللغة الأم، فأن تبني شخصا متوازنا ما بين أصله وما وصل إليه خيرٌ من أن تبقى ذاتا متمزقة بين ضياع الأصل والبحث عن الوصول!

1xbet casino siteleri bahis siteleri