السلام عليكِ يا أيتها الروح الجميلة.. كنت مستلقيا بجانبكِ في لحظاتي الأولى في هذه الدنيا، لا أعرف شيئا سوى حضنكِ الدافئ. توالت الأيام ومرت السنوات، وددت في كل لحظة لو أنني أينما أميل بوجهي أراكِ. كان مشهد جلوسي بجانبكِ يتكرر عدة مرات، أتوق في كل مرة لتلك اللحظة التي تملأ قلبي حبا وطمأنينة كطفل حديث الولادة. جلست هذه المرة بجانبكِ يا أمي وأنتِ مستلقية على فراش المرض، كنت أنتظر أن تستيقظي لتكملي لي الحكاية، كي نتابع حديثنا اليومي عن كل شيء وعن أي شيء. هذه المرة، لم تنفع محاولاتي لإيقاظك ولم تستجيبي لندائي، كان المنادي حينها هو الأقرب إليكِ مني ومن حبل الوريد..{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}، ثم أجبتِ النداء يا أمي، وانتقلتِ إلى رحمة الله، وما لي إلا أن أقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
السلام عليكِ يا أيتها الروح الجميلة.. سنكمل الحكاية بعد أن يجمعنا الله في الجنة برحمته، هنالك يا أمي لا تنتهي الحكايات لأنها دار الخلود. الكل هنا يقول أنكِ كنتِ هادئة جدا ولا تفارق البسمة وجهكِ، حتى في أصعب اللحظات وأثقلها عليكِ. لن تغادر ابتسامتكِ ذاكرتي، وسيظل هدوء روحكِ سائدا أمام ضجيج هذا العالم. لقد تصدّعت كل الجدران بعد مغادرتكِ، عدت أنتِ إلى الأصل، وعاد كل شيء في هذه الدنيا إلى الزوال، فهمت قول الله عز وجل.. {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} فهما عميقا، وكأنني أقرأ هذه الآية لأول مرة! لقد أصبح الفناء مرادفا للبقاء بعد رحيلكِ، أصبح كل شيء يسير إلى نهايته في هذا العالم الزائف. كنتِ دائما تسبقينني إلى غرفتي لتهيئي لي الفراش، إلى المطبخ لتهيئي لي وجبة الإفطار، حتى حقيبة سفري كنتِ تسبقينني إليها، كان كل شيء مهيأ مسبقا، كما كان حال الدنيا عندما فتحت فيها عيناي لأول مرة. ها أنت الآن تسبقينني مجددا كما كنتِ تفعلين دائما، سألحق بكِ أيضًا، سأكمل الطريق وحدي، سيكون طويلا و مملا من دونكِ، أما بالنسبة لكِ سيكون كل ذلك الوقت. {يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍۢ} عندما نلتقي، هكذا وعدتكِ آخر مرة سافرت فيها. قلت لكِ أنني سأعود إليكِ سريعا في غضون يوم أو يومين، لقد وفيت لكِ بوعدي، قلتِ لي حينها أن الله معكِ ولا ينبغي لي أن أقلق.
السلام عليكِ يا أيتها الروح الجميلة، لست قلقا! لم أعد كذلك! إني أعلم علم اليقين أن الله معكِ، هو الذي أمرنا بإكرام الضيف والإحسان إلى الناس. لقد خرجتِ من ضيق الدنيا إلى سعة رحمته، هنالك يُدخل الله المؤمنين جناته..{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ۖ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}..، أعلم يا أمي أنكِ كنتِ تحبين الحُلِي والزينة وكل ما هو جميل.
إن الجنة دار الجمال، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. إني أسأل الله أن يرزقكِ تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها. لقد كنتُ أخشى عليكِ هنا من غدر الزمان وكيد الناس، كنتُ أخشى عليكِ من حر الصيف وصقيع الشتاء، لكنني لم أجد مكانا آمنا هنا لا يصيبكِ فيه شيء من ذلك. تلك صفة الجنة يا أمي، فإني سمعت الله يقول..{وَ جَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا}، لم يكن في الدنيا من آمنه عليكِ سوى ربنا، هو وحده السلام المطلق، أنتِ الآن في رحمته المطلقة، {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}. لم أعد أخشى الحروب والزلازل والأمراض والتغيرات المناخية، لقد نجوتِ من كل هذا يا أمي، لن يصيبك هنا شَظِيَّة من نار ولا رصاصة عدو، ولامرض ولا فقر، أنت في أمان ولا لقاء لنا إلى يوم الحشر؛ (فَوَقَىٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ ٱلْيَوْمِ وَلَقَّىٰهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا). إني أدعو الله أن يجعل نضرة السرور من نصيبنا.
السلام عليكِ يا أيتها الروح الجميلة.. يا من علمتني الحياة وجمالها، لقد كان صبركِ {صَبْرًا جَمِيلًا}، وهجركِ {هَجْرًا جَمِيلًا}، وسراحكِ {سَرَاحًا جَمِيلًا}. لقد أديتِ مهمتكِ على أكمل وجه، ارتاحي الآن يا أمي! سأهتم بكل شيء هنا، لقد أصبحتُ رجلًا كما كنتِ تريدينني أن أكون دائما، علمتني معنى الصبر والتضحية، علمتني الصدق والشجاعة، علمتني معنى الإيمان والتوكل على الله.
ذلك التوكل الذي يجعلكَ “أطول من السماء هامة و أرسخ من الأرض ثباتا”. كنتِ مدرستي، حريتي، سندي، لقد جعلكِ الله رحمة لي في الدنيا وجعل في نظراتكِ ما يثبت قلبي، إنني لا أرى أن الموت يفصلني عنكِ، إن كل قطرة من دمي تحمل وصية أو بسمة أو ذكرى تصلني بكِ، الموت مجرد تذكرة عبور إلى الهدف الأسمى والأعظم، الكل سيعبر، الكل هنا يحزم حقائبه..{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}.
إن الخاسرين هم من ظلوا عن الطريق وعن الهدف، الخاسرون هم من سيعبرون من زيف الدنيا إلى يقين العذاب، و {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}، لم تكن الدنيا لكِ وما أنتِ للدنيا، إن في الخلائق من جبلت نفوسهم على الشر فلا تأويهم إلا النار، ومنهم من جبلت نفوسهم على الخير فلا دار لهم سوى الجنة. كنتِ أنتِ الخير كله، وكان الخير سبيلكِ، وإن المؤمنين شهداء الله في الأرض، لقد شهد كل من جاء لتعزيتي، بخيركِ وصبركِ وطيبة روحكِ. فهنيئا لكِ، طبت يا أمي وطابت روحكِ، وسلامٌ على قبرك حتى يفنى السلام.
السلام عليكِ يا أيتها الروح الجميلة، أسأل الله أن يرحمك ويعطِّر قبركِ برائحة الجنة. أسأل الله أن يتقبل عملك ويجعل الجنة دار قرارك برحمته وكرمه. اللهم ارحم تلكَ النفس الطيبة التي فارقت الدنيا و انتقلت إلى جوارك، اللهم اغفر لها واجعلها في الفردوس الأعلى، اللهم انقلها من ضيق الدنيا إلى جناتك جنات الخلود، في سعة الدور و القصور في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود وماء مسكوب، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
السلام عليكِ، سلام دار قومٍ مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكِ لاحقون.
