ريان.. مواساة الإنسانية

حينما امتدت جميع الأيادي في المغرب والعالم أجمع إلى الطفل ريان لإخراجه من قاع البئر، كانت مشيئة الله أكبر ليرفعه إليه سبحانه، من باطن الأرض إلى عنان السماء، ومن غيابات الجب إلى نوره الذي وسع السموات والأرض.

“ريان” الذي اشتق اسمه من “ري الأرض” لازدهارها، سقط في قاع بئر جاف، حتى يكون هو ينبوع الحب والأمل والإنسانية التي روت قلوب الجميع. “ريان” الذي يطلق اسمه على باب من أبواب الجنة جعلت للذين يكثرون من الصيام والعبادات، انتقل إلى رحمة ربه ليكون في الجنة في كفالة سيدنا ابراهيم عليه السلام. توفي ريان ذو الخمس سنوات، بعد خمسة أيام من الصبر والمقاومة والكفاح، كان فيها ثقل كل يوم كسنة من الترقب والانتظار، حتى يذكرنا أن هذه الدنيا ليست إلا دار معركة وابتلاء قصيرة عابرة، وأن {الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} وهي المستقر كما ذكر الحق سبحانه.

إن أطفالا كثرا عاشوا مآسٍ مماثلة ولم تبلغنا قصصهم وتفاصيلها أو انشغلنا عنها، لكن شاء الله أن يجمع الأمة كاملة ويوحد قلبها على هذا الطفل المنحدر من قرية منسية في شمال المغرب، كذكره سبحانه في كتابه {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}. وبين ليلة وضحاها، تبين لنا جميعا مدى هشاشة الخلافات التي تفرقنا وسطحيتها، وأن الأمة الإسلامية والعربية جسد واحد وأرض موحدة.

لم يحتج هذا الطفل الصغير لخطاب سياسي ولا لإنجاز عالمي حتى يوحد شعوبا متفرقة و يذيب حدودا مفبركة، كل ما فعل أنه تشبث بالحياة لآخر لحظة، ​فكان رغم ضعفه وصغر سنه تذكيرا بقوله عز وجل {وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ ۚ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَٰنًا} وها قد ذكّرنا أخونا الأصغر ريان بهذه الأخوة المهجورة، و{كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، فاللهم اهدنا واجمعنا على كلمة الحق.

لم تكن قيم الأخوة والتضامن هي الوحيدة في هذه المحنة، بل كانت أيضا درسا في الأمومة وقيمة الحياة. نفس واحدة، في جسد ضعيف عالق، حركت شعبا كاملا بل ودولا كثيرة طوال ساعات متواصلة، بعد أن أنستنا الحروب والفاجعات المتواصلة في زمننا مكانة هذه النفس عند الله. ذلك أن الحق سبحانه قال: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}، فسبحان الذي خلق الموت والحياة. هذه الحياة التي تنفخ فينا ونحن في بطون أمهاتنا، كالبذرة في باطن الأرض التي خلقنا منها {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً . ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} ومن جوف الأرض، كان ريان يقاوم الرطوبة والجوع والعطش ونقص الأكسجين، ولم يدخر رجال الوقاية المدنية جهدا إلا فعلوه لإمداده بكل ما قد يبقيه على قيد الحياة.

مقالات مرتبطة

كانت هذه الصورة كصورة الجنين في بطن أمه، وطوال فترة الحمل التي تمتد شهورا عديدة، تصل للإنسان كل احتياجاته في ظروف ملائمة لنموه حتى يحين موعد ولادته وخروجه. وفي عتمة البطن، يرعانا الله برحمته ونحن مجرد قطعة من اللحم والعظم لا تفقه قولا ولا تقدر على فعل، فصدق سبحانه إذ قال: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ}، ثم قال عز وجل {وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْـًٔا}. كل هذا يذكرنا بقيمة الحياة ومكانة الأم وفضل الله علينا؛ إذ إنه سبحانه هو الرزاق ورعايته تشمل الإنسان من قبل ولادته في بطن أمه إلى موته. ريان لم يعد إلى أمه، لكنه ذهب لمن هو أرحم منها، وأنا مؤمن أنه كما رعاه في بطن أمه كان الله يمده بألطافه طوال الوقت في باطن الأرض، فإن كان العالم قد شهد المجهودات الجبارة للجنود والعمال المغاربة، فإن لله جنودا لا نراها.

ورغم قساوة الفراق، فإن ما عند الله خير، ومحنة هذا الطفل تذكرنا بيقين الموت وقدرة الله المطلقة على خلقه {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى . وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}. فبارك الله في كل الجهود والأيادي التي حاولت إنقاذ ريان، كانت جهود عظيمة مباركة، وكانت مشيئة الله أكبر من الجميع. إن الذي خلق الحياة هو الذي خلق الموت فقال: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككم الْمَوْتُ ولو كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} وإن أراد الله لعبد رزقا أو نصرة سخر له جميع خلقه رغم ضعف هذا العبد، وإن مسه ضر فلا كاشف له إلا الله سبحانه. وصدق رسول لله صلى عليه وسلم إذ قال: {وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ}. إن رب الخير لا يأتي إلا بالخير، وعلينا أن نرضى بقضاء الله ونؤمن أن هذه النهاية كانت من حكمة الله ورحمته، كما علمنا في قصة سيدنا موسى مع سيدنا الخضر، الذي قتل غلاما لحكمة بالغة دقيقة خفية عن موسى عليه السلام. ربما لو عاش هذا الطفل البريء لتهافت عليه الناس والصحافة، وانتشرت الفيديوهات والتكبيرات والتأويلات ووقعت الفتنة، واستغله الكثير بشكل خاطىء…إن الله وحده من يعلم حكمة الموت والحياة، وله الأمر كله.

كان الألم كبيرا، وكان الدرس عظيما وكان لطف الله أعظم إذ تقدم بأخلص التعازي وصادق المواساة لوالدي ريان وأهله كل المغاربة ملكا وشعبا، ومعهم ملايين الناس من كل أقطاب العالم، وصلي على روحه صلاة الغائب من المسجد الأقصى، فسبحان من جعل مع العسر يسرا. كما أنه بفضل هذا الطفل عرفت هذه المنطقة وسلط الضوء على السبب الرئيسي للواقعة التي لطالما راح ضحيتها أطفال آخرون. كان ريان أخا للجميع، وابنا للإنسانية جمعاء. ذكرنا ريان بالعديد من القصص القرآنية وكأنها دعوة من الله للرجوع إلى كتابه، قصة رسول لله صلى الله عليه وسلم في الغار وسيدنا يوسف في البئر وسيدنا يونس في بطن الحوت وسيدنا موسى في اليم وأصحاب الكهف… ألّف ريان بين قلوب الأمة وكشف الغطاء عن تفاهة الخلافات، ذكرنا بيقين الموت وقيمة الحياة، وأعطانا هذا الطفل درسا في المقاومة والانتماء.

أعادت قصة ريان ثقة كانت مفقودة، فهذا المغرب الذي تضامن جسدا وروحا ليزيح جبلا من مكانه من أجل إنقاذ طفل وإخراجه من ظلمة بئر، لهو بصيص أمل لهذه البلاد والعباد وكل البلدان الإسلامية التي تواجه جبلا من التحديات للرقي بشعبها ولبناء مستقبل أفضل وغد أجمل لهذه الأمة ولأبنائها، والقوة كلها تكمن في توادنا وتراحمنا وتضامننا، {وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ} صدق لله العظيم.

مات ريان ولكنه أحيا قلوبنا وبقيت ذكراه خالدة، فسبحان من يخرج الحي من الميت. كان ريان درسا وامتحانا، ومصداقا لقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}، ونتيجة هذا الامتحان كامنة في قلب كل واحد منا أولا… فلينظر كل من عرف ريان ما تركه هذا الطفل في داخله أو غيره، أم أنها كانت {عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}… فاللهم لا تجعلنا من الضالين وأنت القائل: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلِّ عَامٍۢ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} اللهم اجعل ريان في كفالة إبراهيم وألحقه بصالح سلف المؤمنين، وجعله اللهم ذخرا وأجرا لوالديه.

1xbet casino siteleri bahis siteleri