هل التصوف منهج حياة أم إيديولوجيا في زمن العولمة؟

تعالت أصوات كثيرة اليوم ولا سيما في الأوساط الثقافية والعلمية عن التصوف وخاصة من لدن أهله الذين عاشوا التجربة الروحية الصوفية بغية حمله على معانٍ وسياقات ودلالات محددة، لكن، لكل محاولة من هذه المحاولات منطلق خاص بها يفضي بها إلى وجهة معينة قد تتفق فيها مع جمهور الباحثين وقد تختلف وتنفرد بها عنهم.

ليس بالأمر اليسير حصر التصوف على دلالة وتعريف معينين، وذلك لأسباب عديدة، خاصة أن في بدياته الأولى كان نهج حياة ونمط عيش بين رسول الله ﷺ وأصحابه الكرام والتابعين إلى أن توارثته الأجيال من بعدهم، لذلك تتنوع التعاريف وتختلف في هذا الباب لاختلاف السياقات والأبعاد الزمانية والمكانية والإنسانية. فكل ما كان متعارف عليه آنذاك بين المسلمين؛ مفهوم الزهد الذي اتصف به رسول الله وصحابته وحث عليه، ومن أبرز عوامل انتشار الزهد الإسلامي النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة التي تدعو إلى تزكية النفس والعمل من أجل الآخرة والابتعاد عن الدنيا، لكن، بعد توسع الدولة والفتوحات الإسلامية اختلط العرب بالعجم والفرس فتشربت الثقافة العربية مفاهيم جديدة أدت للانتقال من الزهد المتعارف عليه إلى التصوف كاتجاه عقدي، وغدا المسلم الزاهد صوفياً. لكن الزهد غير الرهبانية فهو ليس مقرونا بالفقر، قد يجتمع في المرء الغنى والإنفاق كما كان عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما من كبار الأغنياء، ولكنهما كانا زاهدين فيما يملكان، وليس هذا فحسب، بل هو التزام بقول رسول الله ﷺ: «إن الرهبانية لم تكتب علينا».

تضاربت الأقوال في الحديث عن مدلول كلمة التصوف سواء في شقه اللغوي أو الاصطلاحي، فمن الجانب اللغوي نسبه البعض إلى الصفاء والبعض الآخر إلى صفة مسجد رسول الله وآخرون إلى الصوف وكذا إلى الصف. يقول الإمام القشيري في شأن المنتسبين إلى صفة مسجد رسول الله ﷺ أن النسبة لا تجئ على نحو الصوفي. وذلك لأن الاشتقاق اللغوي لا يتناسب، فالصفة تنتج الصفي وليس الصوفي. ثم أرجع البعض كلمة الصوفية إلى الصفاء لأن الصوفي من صفت لله معاملته فصفت له من الله عز وجل كرامته، وهو بعيد في مقتضى اللغة، لأن الاشتقاق اللغوي من كلمة الصفاء صفائي أو صفاوي وكلمة الصفو صفوي وليس صوفي.

كل ما تؤكد عليه المصادر التاريخية العربية أن الكلمة أول ما أطلقت في النصف الأول من الهجرة على أبي هاشم الزاهد البغدادي وجابر بن حيان الكوفي كانت لقبا. وإن اختلف الكتاب في أول من اتصف بها، يرجح أبو العلا العفيفي أن لقب الصوفي أطلق على جابر بن حيان وأبا هاشم الصوفي أول الأمر. أما الحديث عن الاشتقاق اللغوي لكلمة التصوف لا ينتهي، لذلك اكتفينا بذكر أهم الجذور التي نسبت للتصوف والأقرب إلى الحقيقة وسننتقل لأول تعريف في الشق الاصطلاحي الذي بدوره اختلف فيه العلماء.

نقل ابن القيم الجوزي عن السري قوله أنّ التصوف اسم لثلاثة معان: “لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، ولا يتكلم بباطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب، ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله.” فالمعنى الأول هو التأكيد على الورع بأن لا تُذهب معرفة المرء عليه ورعه، ويقال إن الورع آخر مقام الزهد للعامة وأول مقام الزهد للمريد، والورع صون النفس وتوفير الحسنات وصيانة الإيمان والهروب من كل داعيةٍ تدعو إلى شتات الوقت، والمعنى الثاني أن لا يفتي المرء بمعنى باطن للآية من كتاب الله عز وجل يعارضه ظاهره؛ وأساس هذا القول أن طبيعة تلاوة القرآن عند الصوفية تقتضي الحضور التام بالقلب في “الحضرة الإلهية” –إن كنا نتحفظ على هذا اللفظ- ومناجاة الله تعالى بكلامه والخضوع التام له، لذلك لزم أن لا تخرج معاني الآيات عن ظواهرها وأن لا تعارضها وإنما المراد الجمع بين المعنين، والمعنى الأخير عدم اقتحام حدود الله وحفظها وصيانتها بالتقوى والترفع عن الدناءة.

 

أما الإمام الكتاني فيقول إن التصوف “خلق فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الصفاء”، ويقول آخر في نفس السياق وهو محمد بن علي القصاب أن التصوف “أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم من رجل كريم مع قوم كرام”. اتفق كلا التعريفين كون التصوف خلق حسن؛ لكن جاءت عبارات التعريف الأول بمعنى تصفية القلب والإخلاص إلى الله تعالى وإفراده بالعبودية جل جلاله والتحرر من السجود لغيره سبحانه؛ جمع التعريف بين الطريقة والغاية؛ فالطريقة التحلي بالخلق الكريم والحسن كالزهد والصبر والورع والتوكل والرضا والصحبة واليقين وغيرها أسوة برسول الله ﷺ، والغاية بلوغ أعلى درجات الصفاء. أما التعريف الثاني فيقصد الأخلاق التي دعا إليها رسول الله واتصف بها عليه الصلاة والسلام وظهرت على صحابته الكرام رضوان الله عليهم.

يقول عبد الله بن عجيبة التصوف علم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، أو تصفية البواطن من الرذائل وتحليتها بأنواع الفضائل أو غيبة الخلق في شهود الحق أو مع الرجوع إلى الأثر، فأوله علم ووسطه عمل وآخره موهبة. لكن إذا كان هذا هو المراد من التصوف، لِمَ تتعالى الأصوات اليوم حوله، هل هو إيديولوجيا تروج لها وسائل الإعلام أم موضة العصر أم ماذا؟ يلحظ الباحث العربي زخما هائلا في الحديث عن التصوف كونه تجربة روحية مقترنة بالسماع أو الزوايا، ما إن يذكر التصوف حتى يقرن بالزوايا؛ كالزاوية القادرية أو الزاوية التيجانية أو السنوسية وغيرها كثير، لذا نقول: إن هناك خلطا كبيرا يشكل لبسا على القارئ في الأوساط الإعلامية أو الاجتماعية أو الثقافية بين الممارسة و الفكر، أو بمصطلح آخر بين العلم والعمل، وهذا راجع إلى كون الدراسات الحديثة التي تدرس حركات التصوف الإسلامي وأفكاره الروحية، لا تحظى الخلفيات الفكرية للدارسين فيه باهتمام كافٍ. وتتأثر بعض هذه الدراسات بمشكلات صعوبة النص الصوفي، أو التأثر بمناهج تاريخية معينة، والانحيازيات المسبقة التي تشكل جانبا مهمًّا من وجهة دراسات التصوف الحديث التي أشرنا إليها سابقاً باسم الزوايا.

كل هذه المظاهر التي ذكرنا وأخرى آثرنا عدم ذكرها أدت ببعض الدارسين لتسمية هذه العودة بالصحوة الصوفية كمحاولة لتسييس الإسلام السياسي مع ما شهده القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من موجة الإرهاب العنيف ومحاولات تفكيكه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

-الإمام أبي القاسم عبد الكريم القشيري، الرسالة القشيرية: تحقيق عبد الحليم محمود ومحمود بن الشريف، دار المعارف، القاهرة ،1119م، ج2، ص440.
-أسعد السحمرائي، التصوف منشؤه ومصطلحاته: دار النفائس، بيروت، 1987م، ط1، ص21].
-أبو العلا عفيفي، التصوف الثورة الروحية في الإسلام: دار الشعب، بيروت، ص27.
-عبد الله محمد ابن القيم الجوزية، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين: دار الكتب العلمية، بيروت، ج2، الطبعة 1، ص 484.
-الإمام أبي القاسم عبد الكريم القشيري، الرسالة القشيرية: تحقيق عبد الحليم محمود ومحمود بن الشريف، دار المعارف، القاهرة ،1119م، ج2، ص440.

1xbet casino siteleri bahis siteleri