قراءة في رواية لحظات لا غير لفاتحة مرشيد

2٬518

عندما نتحدث عن الكاتبة والروائية فاتحة مرشيد فنحن نتحدث عن صوت مغربي متفرد، متميز، بالغ الرفاهة، صادم وجريء، صوت يحاول تحريك المياه الراكدة ملقيا بالحجارة فيها وصوت فاتحة مرشيد، هو من بين هذه الأصوات التي تستفز المرء باقتحامها عوالم مسكوت عنها، تلك الجوانب التي تبدو هامشية غير مركزية لكنها عكس ذلك تماما.

للكاتبة عدة روايات، ومن بينها رواية لحظات لا غير، الرواية التي أزهر بها المركز الثقافي العربي سنة 2007؛ هذه الرواية من الإبداعات الأولى للكاتبة في المجال السردي، ومن خلال روايتها هذه حاولت استعادة الحياة، “ولا شيء يعيد الحياة لجسد ميت أو لراغب في الانتحار” بلغة الكاتبة، رواية رومانسية جميلة تنسج حبكتها من وقائع الحياة ومن جمال اللغو وغنى الشعر. بالإضافة إلى هذا، فإن شخصياتها مغايرة تماما لشخصيات وأبطال الروايات والقصص الأخرى، أبطال من طينة أخرى، إنها شخصية “القلم” و”الورقة” مع حب ومداعبة الكتابة التي تصنع الخلود وما أدراك بخلود الإبداع الذي تنشده الكتابة. “تريث قليلا أيها الموت إني أكتب”.

لحظات لا غير عنوان مفعم بحمولة دلالية تحيل على الزمن والإحساس به، لحظات امتلاء الروح والفكر والجسد، لحظات المتعة التي تتميز عادة بقصرها، هذه اللحظات التي ستتحقق أثناء ذوبان الأنا في الغير (وحيد وأسماء). هاته الرواية نجحت في العبور من الأنا إلى الآخر ومن الآخر إلى الأنا؛ إذ إن كل انفتاح على الآخر هو محاولة لاستعادة الأنا وحكايتها؛ هذا الآخر لا يمكن أن يوجد إلا من خلال اللقاء أو الصدام بالأنا، والأكثر من ذلك، فالآخر هو ذلك الشخص الذي يختلف عن الذات، هو الغريب في دواخلنا أو هو الأنا الأخرى التي نجهلها، وبهذا المعنى الآخر الداخلي هو الوجه الخفي من هويتنا الذي نحتاج إليه لكي نتعرف على أنفسنا وعلى صورتنا الأخرى، وبفضل هذا الآخر نمارس التفكير في ذواتنا ونحدد هويتنا بشكل أعمق.

لحظات لا غير، رواية ترسم وتختزل لنا تجربة الطبيبة النفسية أسماء التي صارعت المرض اللعين الذي يفتك بالجسم والروح والإرادة وتغلبت عليه، هذا المرض الذي يحرم الأنثى جمال أنوثتها باقتلاع نهدها أو نهديها معا، ثم تجربة مريضها وحيد الكامل أستاذ الفلسفة وشاعر، انقطع وتوقف عن الكتابة. كان يعيش حالة اكتئاب دفعت به للانتحار، لكن الطبيبة أسماء استطاعت أن تغوص في سبر أغوار وحيد وأن تخرجه من سوداويته وظلمته الحالكة التي كان يعيش فيها، كان السبب وفاة والده الذي كان في علاقة تنافر وتباعد معه في طفولته وشبابه، لأنه كان اليد المتهورة والرأس المخمور والرجل التي لا تعرف التريث، وحيد عند وفاة أمه شمسه إثر حادثة سير بسبب سياقة أبيه المتهورة وهو تحت تأثير الكحول، حيث كان يبلغ من العمر عشر سنوات حينها فقد طفولته وودعها، أمه التي كانت سيدة التضحيات وتعيش من أجله، وفي هذه الفترة اشتد صراع وحيد مع والده الذي تزوج بعد ثلاث سنوات على وفاة أمه، اعتبر هذا الزواج خيانة عظمى لأمه وأن قبوله بهذا وتواطؤه مع زوجة أبيه ستكون خيانة أعظم. لذلك قرر بعد حصوله على شهادة البكالوريا الرحيل والابتعاد من هناك ليكمل دراسته في مدينة أخرى في شعبة الفلسفة وما أدراك ما الفلسفة، عاش علاقات صاخبة هناك، أدمن الكحول.

لكن لقاءه بسوزان زوجته التي أخرجته من إدمانه وأتمم دراسته وحاولت ما في جهدها أن تصالحه مع والده، أضفت هذه المحاولة على علاقته بوالده شيئا من التواصل وتبادل بعض الرسائل المحتشمة والقليلة، غير أن خبر وفاة والده إثر حادث سير والده الذي كان يتمنى هو نفسه وفاته من قبل، وكأن القدر استجاب لدعوته، هذا الأمر جعله في حالة ندم ولوم النفس والاكتئاب وكأن دعوته هي السبب.

هذا ما جعله يتوقف عن الكتابة بل عن التنفس بالرئة الثالثة التي يتنفس منها الشعراء والكتاب، لكن الطبيبة أسماء جعلته يخرج من هذا العالم الكئيب ليتنفس من جديد ويفض بكارة الورقة كل يوم، استعاد لياقته في الكتابة وعافيته في إبداع وصنع الأفكار والأشعار، لكن الغريب هو أنه أعاد طبيبته إلى الحياة أيضا، تلك الطبيبة المطلقة التي كانت ترفض أن تقوم بإجراء عملية تجميل أو ترميم لنهديها، لكنها تراجعت عن هذا من خلال حصص علاجها معه وعودتها إلى حضن الكتب والقراءة، وقراءتها أعمال ودواوين مريضها وحيد تصالحت مع القلم من جديد وبدأت ترسم كلمات وحروفا من نور على صفحات من ذهب لا يلمس سحرها وجمالها إلا من اخترق قلبه رمح الحب ومن يغريه بياض الورقة، صالحها مع نفسها فاستعادت الحياة والحب والأمل وأعادتها حصص علاجه إلى نفسها، كما صالحته هي وأعادته إلى روحه ساهمت في عودته إلى الكتابة، حيث كتب لها إهداء بقلمه، إهداء لها لا لغيرها “إلى من أعادت روحي إلى أبراجها”.

وقعا في شباك الحب، هذا الحب الذي صالحها من نفسها ومع العالم، بدأت علاقتهما كإبحار دون احتمال العودة إلى اليابسة؛ تزوجا لكن إصابته بذلك المرض اللعين الذي أصابه بعد مدة قصيرة من زواجهما، صار طريح الفراش تحت رحمة الآلات والأدوية، حرصت على الاهتمام به تكلفت وحدها به دون مساعدة أي ممرضة رغم إصرار طبيبه على ذلك، لكنها رفضت أن يتقاسم أحد معها لحظاتها الأخيرة ويزعج خلوتهما، أليست الحياة لحظات لا غير فيجب أن تعاش بعشق وحب وكأنها آخر لحظة نعيشها فكما قالت مرشيد: “ليس امتداد في الزمن، بل الامتداد في أعماق اللحظة”. قامت بواجبها ليس فقط كزوجة مخلصة ومحبة، بل كممرضة أيضا وكأنها خلقت لتدرس الطب من أجل أن تعتني به، إلى حين وفاته وفاة صامتة.

هنا تنتهي الرواية من حيث بدأت، فلولا رحيل ذلك الآخر ذلك الوحيد من نوعه، لما خرجت هذه الرواية إلى الوجود، بفضل ذلك الآخر عادت الكتابة إلى الطبيبة وكأنها أخذت على عاتقها إرث الكتابة لكي تخلد وتخلد حبهما. الطبيبة أسماء إنسانة في نهاية الأمر، امرأة عرفت عدة انكسارات “فشل في الزواج، المرض…” وهذا اللقاء بالآخر وحيد، وبالرغم من أنها الطبيبة وهو المريض فإنه اللقاء الذي دفعها إلى أن تواجه في داخلها أناها الأخرى، المقموعة والمكبوتة والمستورة، ولهذه الأنا الأخرى أوجه عدة؛ الأنا الكاتبة المستورة التي لولا وحيد لما عادت إلى الظهور.

المرأة العاشقة التي لا زالت رغم انكساراتها تحلم برجل يختزل كل رجال العالم. المرأة المثقفة الإنسانة التي تتمرد من أجل أن تعيد للحياة المهنية وللحياة العامة بعدها الإنساني في أجلى صورة.

تحمل رواية لحظات لا غير الكثير من الدلالات والرسائل التي وجب اختصارها في أن الآخر يمثل الجسر الذي نمر منه للتعرف على ذواتنا الداخلية، فالطبيبة أسماء لم تتعرف على نفسها إلا عن طريق الآخر، إلا بعد أن تعرفت على وحيد الكامل الشاعر الذي أعادها إلى الكتابة وجعلها تشعر بجسدها كامرأة وكأنثى لها مشاعرها الخاصة. كما أوضحت الكاتبة أن الحياة مجرد لحظات لا غير، لحظات يجب أن تعاش بصدق وحب وكأنها آخر لحظة تعاش، وأن الحب هو أساس اللقاء بالآخر، فالحب يحيي الحوار والتواصل، وأن تحب معناه أن تحسن الإصغاء للآخر، ووحدها الكتابة يمكن أن تساعدنا على العبور من ذواتنا إلى الآخر، إنها باب مفتوح في وجه الآخر، وخاصة ذلك الآخر المستور أو المكبوت والمقموع في دواخلنا.