لؤلؤات المروج

ينظر الأطفال إلى الآلة باستغراب شديد، يقتربون نحوها بخجل، يمدون أصابعهم الرقيقة المليئة بالوحل ليداعبوا الشاشة التي تصورهم ثم يظهرون عبرها في التلفاز، هكذا شرح لهم أحمد الأمر، يوجه الكاميرا اتجاه الفتيات مجددا وهن يلتقطن المحار الملزمي من المرجة الزرقاء، على بعد أمتار يتوارين بخجل عن عيون الكاميرا، أقدامهن تغوص في الوحل بسلاسة ثقيلة ولا يبالين بذلك.

في الأول كان يظن أن منظر النساء القاسي هو من أخرسها. على بعد أمتار قليلة بدت مرهقة كما لم يرها من قبل، عيناها بعيدتان جدا كأنهما تعبثان بخجل في صور من ماض ولى ككتاب ترهلت صفحاته وتيبَّستْ أطرافه، شعرها البني يتطاير مع إيقاعات موسيقية تعزفها السيدة الزرقاء بسخاء مع ذلك بدت جميلة بمعطفها الطويل ووشاحها القرمزي، مرجانة صحفية تعمل إلى جانبه في نفس القسم، ذكية، شغوفة، حرف أنثوي غامض، مواضيع متفردة، أما هي فتقوقعت مرغمة تحت سطوة وهيبة الزرقاء ترمي نظراتها هنا وهناك، هي التي لطالما خانتها ذاكرة الأمكنة ضاعت الآن في ماضيها المركون، المرجة الزرقاء، متلألئة جامدة كأنثى تخفي خلف استكانة ملامحها أسرار وتناقضات جمة بكاء، ضحكات، صخب، قهقهة العشاق في الليالي الحالكة، قال بصوت خافت:

-أخيرا وصلنا إلى المرجة الزرقاء، وجدنا من سيجعلنا مميزين.

-تذكرت قبل أسبوع في سيارة أحمد أثناء فترة الغداء، طوال الطريق وهو يهلوس بالمرجة الزرقاء وخلف ذلك رغبة خفية في التميز عن باقي الزملاء في الجريدة.

-هي جوهرة المغرب المتمردة وملاذ الطيور المهاجرة، بحيرة مترفعة طاغية الجمال والأنوثة، وردة شهية للعلماء والخبراء بل أكثر من هذا لقبت بالمحمية العالمية حسب اتفاقية رامسار، كما تعلمان هي اتفاقية انضم لها المغرب سنة 1980، تتصل بالبحر عبر مصب على شكل عنق زجاجة ما يجعل مياه البحر تتسرب إليها أثناء المد، أطلق زفرة طويلة ثم استطرد:

-في القديم كان يحرسها سبعة حراس، أما الآن فلا أعرف قاطعته قائلة:

إن أهم ما يميز المرجة الزرقاء هو المحار الملزمي أو الزلفية، هو صدفة تحيا في الرواسب الحبيبية في جوف المياه المالحة، ابتسمت وفي وجهها سكن حنين خفي ثم استطردت:

-كانت مصدر الرزق للعديد من أهل القرية، خصوصا الفتيات حيث يذهبن أثناء الجزر، أما أثناء المد فيستحيل عليهن ذلك أو كان مصيرهن الغرق.

عادت إلى الواقع على صوت خطواته وهو يقترب منها متسائلا:

-يبدو أن المرجة الزرقاء تعني لك الكثير؟

-كنت قروية بضفائر متمردة وبعقل لم يقع فريسة للنوافذ المغلقة، طبعا فحين كنت أجمع المحار لأساهم في مصروف البيت أدخر بعض المال لشراء الكتب، كان حلمي بسيط جدا أن أغفو يوما وأستيقظ وأجدني في مكان غير هذا المكان، لكن لم أنجح في ذلك، حتى حين استطعت الخروج من هنا بعد أن ماتا والداي رفعت رأسها بحزن:

-في جوف هذه الساحرة التي ترى أمامك الآن، الكثير من الأرواح العالقة، أرواح كانت تختزن أمالا وأوهاما بسيطة، لا زلت أذكر يومها لم نستمع للحارس الذي حذرنا من التقاط المحار أثناء المد، مع ذلك عصينا التعليمات، كالعادة سلكنا الطريق ونحن نبتسم دخلناها غير آبيهن لغضب السيدة الزرقاء، كان الماء يغمر أجسادنا كلها فاخترنا أن نلتقط المحار بأقدامنا، أذكر يومها أننا ضحكنا كما لم نفعل من قبل، ضحكنا الفقر، الحب، الزواج، التعاسة، البؤس، فجأة صرخت زينب بأعلى صوتها وهي تقف على صخرة صغيرة قائلة بغنج:

-هل تعلمون أن السيد عبد الله قد طلب يدي؟

كانت جميلة كالغجريات، عيناها بريتان وشعرها يتطاير كخيوط ليل قاتم، فتيات القرية كلهن يبغضنها على حسنها كانت الوحيدة التي تميزت ببشرة سمراء صافية في حين كانت وجوه معظم الفتيات مليئة بالبقع الحمراء وخدودهن كالدماء، ولا أنكر أنني كنت منهن حتى صاحبت الكتب وتواريت عن تفاهتهن، فجأة سقطت هكذا في لحظة غابرة، سقطت على رأسها وسقطت أحلامها كما سقطت أحلام اللواتي قبلها على نفس الصخرة، تساءلت ماذا لو كانت زينب فتاة متعلمة طبعا لم تكن لتجعل من الزواج حلما عظيما لم تكن لتصعد إلى الصخرة لتزف خبرا عاديا بكل ذلك الحماس الذي أودى بحياتها، لكننا أبناء المغرب المنسي، أقصى أمانينا، التعليم والكرامة،

1xbet casino siteleri bahis siteleri