التلفاز القديم

عندما كنت صغيرا وجميلا وبريئا كانت أمنيتي الوحيدة الفريدة أن يكون في بيتنا تلفاز، ظنا مني أنه جهاز التسلية واللعب والتلعاب يطيب لنا السمر ويأخذنا إلى القمر. طال بي التمني والسعي في إقناع أبي الحازم الجازم في قراره، وبعد أن سلكت جميع السبل والشعاب والأودية في إثبات أن الجهاز سر الفرح والمرح وكنه العلم واللمم، إلا أن والدي أبى ونبا وأخذ يردد عبارته ذاتها لن أزرع الفساد في حقل الزهور.

غضبت ونقمت على أبي حينها وحسبت أن به جنة وطال بي الحزن والشجن والاستغراب حينا من الدهر حتى أنني رجوت من الرحمن المنان أن يرزقني التلفاز في جنته العدن، وبعد أن كبرت واشتد عودي عزمت على تحقيق منيتي، أذكر أني فرحت وانتشيت باقتنائه حد الثمالة، في تلك الليلة المنعشة العليلة جفاني النوم وبين الحين والحين أقوم من مضجعي لأتفقد جهازي الجديد وأداعبه بأناملي كأبله محموم أضناه الغرام.

مرت السنون واكتشفت أن التلفاز ليس ٳلا جهاز يستخدم لتحويل الصور المرئية وما يرافقها من أصوات إلى إشارات كهربائية وبهجته تنقص وتضمحل في الأنفس مع تزايد الأيام. وبعد جهد جهيد وبحث مرير فهمت أن مهمته أيضا تحولت مع الزمن، فبعد أن كان ناقلا للفرجة القادرة على تحويل الخيال إلى واقع كذا الأخبار والمعرفة أضحى التلفزيون يخدم مصالح قائمة في ذاتها مزيفا للحقيقة والواقع الحياتي المر، وذلك بغرض إبقاء عقل المشاهد أسير اللهاث والأحداث، معتمدا وبقوة على الصورة قبل الكلمة، فاتحا صدره إلى أشخاص لا يمتون للإعلام بصلة فرضوا أنفسهم على المشاهد قسرا فقط لأن الله من عليهم بنزر من الجمال والمال، فأصبحت التفاهة شعارهم والرداءة منتجهم.

حتى ذلك الصعلوك الفقير البائس الذي لا يكاد يجد قوت يومه تجده متلهفا رغم الهوة الساحقة بينه وبين العالم وتفاصيل حياته، إلا أن الصورة التلفزية المصطنعة تسلب لبه وتجعله في حلم جميل. إن ما تقدمه شاشتنا ليس سوى ضرب من التفاهة يكون حيالها المتلقي كمريض بالفصام. ليس هذا ما يهولني ويضنيني، لكن خرقا وشقا بدا يظهر جليا في علاقتي بأولادي، لا أكاد أسمع صوتهم إلا وهم يعلقون على مسلسل أو فيلم أو مباراة لكرة القدم حتى لغتهم أضحت غريبة عجيبة تميل إلى الوحشية، يحتذون بأرذل الناس الظاهرين ليل نهار على أديم التلفاز. غدوت في أعينهم شاذا وأنا أحمل بين راحة يدي كتابا أو موسوعة.

مقالات مرتبطة

صار محيطي غارقا في الاضطراب الاجتماعي وعدم الاستقرار وكذا الهروب من المشاكل والتصدي لحلها والامتناع عن حلها بحجة الحلقة الأخيرة من المسلسل. حاولت الانضمام مجددا إلى عشيرتي رجما بإعادة الأواصر بيننا ثم بدأت أعمل النظر في الفضائيات أتقصى ظهور فيلسوف أو مفكر، لكن سرعان ما خاب ظني مجددا وما زاد قنوطي أني سمعت ذات يوم من أحد الخلان وهو يصرح متشدقا متحذلقا أن التلفزيون ليس المكان المناسب لإبراز الأفكار وإظهار الثقافة وإعمال العقل أو ما شابه ذلك من فلسفة يصعب إدراكها ويستحسن تركها.

ٳنا شأننا الوحيد وهمنا الفريد هو البهرجة والتهريج، رغم رفضي لهذه الحقيقة إلا أنها مسلمة فالناس غدا همها الوحيد الفرجة على فضائح وأسرار النجوم والجماهير الغفيرة التي تطلب التفاهة دون وعي منها بذلك. إن أغلب الناس يفضلون مشاهدة مسابقة غنائية على أن يتابعوا محاضرة فكرية ومن هنا تبدأ صناعة التفاهة.

استحال حالي لشخص يتحرى عن شيء لا يستطيع الوصول إليه، أنظر في الشباب فلا أجد سوى هيكل فارغ تعتريه الحكاوى الضئيلة الخسيسة فأي تقدم نلتمس وأي تطور نفتش، حينها أدركت قول والدي لن أزرع الفساد في حقل الزهور. أكاد أجزم أن التلفزيون العربي أصبح سدا منيعا وصرحا حصينا يمنع أي ابتكار أو خلق فكري جديد صفقة تجارية ربحية في أثواب الفن والإبداع.

إن ازدهار ورفعة الأمة رهين بالمبدعين والفنانين، كما أن المشهد السمعي البصري العربي لا يمكن أن يعلو شأنه فقط أو بمجرد تغيير مدير أو رئيس. يمكننا التغيير إذا وفقط إذا ركزنا على القيم العليا والمبادئ السامية والرؤية الشاملة الواضحة وكيفية تكيفها مع المجتمع.

1xbet casino siteleri bahis siteleri