فلسطين: جرح الأمة الذي لا يتوقف عن النزيف!

إن تاريخ القضية ومكانتها العقدية والحضارية في الأمة وأحداثها المتعاقبة منذ تمزيق العالم الإسلامي وتوزيع تركته، كلها أمور نتجاوزها في تعليقنا هذا إلى الحديث عن الحلول المرتقبة، من باب التوضيح لبعض من لا يزال ينتظر العالم الآخر لينصف الفلسطينيين وينقذهم من غطرسة الصهاينة، ومن باب التذكير لمن يفقد الأمل في الانتصار بدعوى عدم توفر أسبابه ومقوماته.

أولا: فيما يتعلق بالمراهنة على المنتظم الدولي في القضية الفلسطينية
بإيجاز، فإن المراهنة على حقوق الإنسان والمنتظم الدولي في قضية فلسطين أو غيرها هو وهم ومضيعة للوقت، وإليك البيان: فيما يتعلق بالعلاقات الدولية في سبيل مناشدة السلم والأمن العالميين، هناك مدارس تفسر وتنظر لهذه العلاقات، -حري بمن يريد الحديث عن مثل هذه الأمور أو فهمها أن يدرس هذا- على رأسها مدرستان:

المدرسة الأولى:
تنطلق من فرضية أن الإنسان طيب بطبعه وأن الأمن والسلم العالمي يمكنه أن يتحقق بنزع السلاح، والاتفاقيات، والحوار، والتضامن والتعاون، وتسمى هذه المدرسة “بالمدرسة المثالية”، لأنها تنظر لمجتمع مثالي وتنطلق من فرضيات مثالية غير واقعية، وهذا الاتجاه ينشط دائما بعد الحروب الشاملة والإبادات الجماعية والتصفيات العرقية؛ بحيث ترفع الدول الفاعلة شعار المثالية كنوع من التوبة والندم والدعوة إلى السلم والأمن، وتحكيم لغة القانون، وهذا ما أسميه “بالتوبة المؤقتة في العلاقات الدولية” بحيث يأتي بها الأسياد كمسوح وقربان لتنظيف أياديهم من دماء أشلاء ضحاياهم في انتظار الفرصة القادمة المواتية.

المدرسة الثانية: تنطلق من فرضية أن الإنسان شرير بطبعه، وأنه محب للسلطة والسيطرة ومجبول على التعدي، وبالتالي فإن الأمن والسلم العالمي سيتحقق حينما نطبق ما يسمى بتوازن القوى والسباق نحو التسلح، بحيث يصبح كل واحد خائفا من الآخر. وهكذا لن يهجم أحد على أحد وتسمى “بالمدرسة الواقعية”، وهي التي يطبقها العالم الغربي اليوم (أمريكا وروسيا والصين على سبيل المثال)، كل واحد منهم لديه أسلحته الفتاكة وفي تطور مستمر، وكل واحد منهم يهدد الآخر وبشكل مستمر، لكن دائما في أمن وأمان لأنه لا أحد منهم يستطيع أن يتجرأ على الآخر، وهذا هو المفهوم الواقعي للأمن والسلم الدولي، أي مفهوم القوة والخوف المتبادلين. وحينما تريد مثل هذه الدول أن تستبيح حرمات وسيادة ضحاياها من جديد تسمي ذلك بالتدخل لفرض القانون، أو التدخل من أجل الحماية، أو من أجل حماية الديمقراطية، أو استعادة الشرعية، أو حماية حقوق الإنسان…، وأخيرا ظهر المبرر السحري وهو: “القضاء على الإرهاب”، بعد استهلاك تهمة القاعدة، وكلها أسماء تبرر التدخل غير المشروع لأسياد الكون في استباحة حرمات الناس، وتحت نفس المظلة وبنفس المنطق غزت أوروبا العالم في موجة الاستعمار العسكري الأخير مطلع القرن الماضي وما قبله، وعلى نفس المنوال وبنفس المغزل نسجت أمريكا في العراق وأفغانستان… وبنفس المنطق هدمت ليبيا وسوريا واليمن، وبنفس المنطق تهدم فلسطين اليوم.

هذه هي أهم النظريات التي توضح بجلاء واقع المنطق الدولي فيما يتعلق بالسلم والأمن العالمي في قاموس أسياد الكون. أما الأمم الضعيفة المستضعفة فلا تملك أمانا ولا أمنا، ولا تستطيع نزع حق ولا المطالبة به؛ لأنها لا تملك أساليب الضغط وإرغام الخصم على الجلوس لطاولة الحوار، وهذا حال أمتنا وغيرها من الأمم الضعيفة، إلا أن الأمة الإسلامية ما تزال تحمل هاجس الوحدة والدفاع عن المقدسات وإن تفرق جسدها بالحدود الترابية.

وقد فهمت إسرائيل هذا المنطق فهما دقيقا، وبناء عليه تستمر في الاستيطان والتهجير والتعذيب، دون أن تنظر لأي اتفاقية ولا لأي معاهدة، لأن تلك الاتفاقيات والمعاهدات إنما تعمل ضد الضعفاء فقط، فشرطي الكون (مجلس الأمن) لا ينزعج ولا ينتفض إلا ضد الصغار كالعراق وليبيا، أما حينما يتعلق الأمر بروسيا أو الصين أو إسرائيل فإن الحديث عن العدالة الدولية حينها يكون من قبيل لغو الكلام.

وبهذا يتبين بوضوح أن المراهنة على منظومة الأمم المتحدة والمنتظم الدولي باعتباره راعيا رسميا وشرطيا كونيا لقمع الظلم وإحقاق العدل ليس سوى منوم مغناطيسي، ومزيد من تضييع الوقت! وفي ظل هذا نفهم جيدا بأن تحرير فلسطين -أو غيرها من المناطق التي تحتاج للتحرير- لن يتحقق دون وجود أمة قوية تملك أسلحة فتاكة تستطيع أن تقارع بها إسرائيل ومن يقف من ورائها، حينها يمكن اللجوء للقوانين والاتفاقيات والمعاهدات، وهذا ما يقتضيه ديننا الحنيف. نتفهم كثيرا موقف أولئك المثاليين الذين لا يزالون يعلقون آمالهم في مظلة المنتظم الدولي وقبة الأمم المتحدة من أجل إنصاف الشعب الفلسطيني وغيره من المستضعفين، وما قدمته أعلاه جوابا شافيا لهم بحول الله.

ثانيا: فيما يتعلق بفقد الأمل في الانتصار بدعوى عدم توفر أسبابه ومقوماته
من المسلم به من باب الوضوح والواقعية أن مقومات الأمة الفلسطينية باعتبارها واجهة المقاومة في الأمة الإسلامية ضعيفة وضعيفة جدا، ولا يملك مقارعة إسرائيل بالسلاح من بين الدول الإسلامية إلا القليل النادر، وإن وجد ولديه حماس ويعبر عن غضبه واستنكاره وربما توعده… لكن لا يرجح حاليا أن يقدم على الفعل بقصف إسرائيل أو بدعم المقاومة الفلسطينية بالسلاح بشكل مباشر، هذا واقع مؤلم نعترف به ونعتذر به أيضا للقضية الفلسطينية وهي أعلم بهذا من غيرها، وتعذرنا به بلا شك. لكن السؤال الذي يطرح الآن هل على الأمة وفلسطين بالأخص أن تقبل بأمر الواقع وتستسلم للصهاينة وتسلم مقدسات الأمة بدعوى أن أسباب المقاومة غير متوفرة؟ أم عليها أن تقاوم بما تملك من عدة وعتاد ووعد بناء على أن المؤمن إنما يطلب منه الاجتهاد في إفراغ وسعه في الاستعداد لما يفوق طاقته، وبالتالي فإن النصر من عند الله ينصر من يشاء وهو على ذلك قدير؟ إن الجواب عن هذين السؤالين بإيجاز واختصار، أنه ليس أمام الأمة إلا أن تقاوم بما تملك من قوة وعدة وعتاد وعدد، وتعقد عزمها على الله وهو ناصرها بإذنه، وإليك بيان ذلك وأدلته:

الدليل الأول: دليل إيماني عقدي مفاده أن أسباب النصر في منطق المؤمن لا تقتصر على الوسائل المادية فحسب، وهذا جزء من الإيمان، فالله تعالى يقول: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1] فالملك كله له، وتصرفه فيه مطلق، ونماذج ذلك في الواقع كثيرة منها: انتصار النبي ﷺ والصحابة الكرام على اليهود وإخراجهم من المدينة بعد خيانتهم ونقضهم للعهود، لم يكن مبنيا على المنطق المادي المجرد، وهو ما يبينه تعالى بقوله: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ } [الحشر: 2]، فما المؤمنون ظنوا الانتصار وما اليهود ظنوا الهزيمة، أي أن النصر من عند الله. انتصار النبي ﷺ والصحابة في غزوة بدر، لم يكن مبنيا على منطق الوسائل المادية المجردة، فلا العدد ولا السلاح ولا الزاد؛ كان لصالح المسلمين، لكن الله تعالى كان معهم، ولذلك قال تعالى واصفا مدده ونصره لحزبه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ } [آل عمران: 123]، وقال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]، أي أن النصر من عند الله. والأمثلة على هذا لا تعد ولا تحصى قديما حديثا، في تبيان أن النصر من عند الله، وأن المؤمنين مطالبون بالاعتماد على ما في وسعهم وطاقتهم ثم التوكل على الله حق التوكل.

الدليل الثاني: دليل السنن الكونية ومفاده أن نصر المظلوم إنما يأتي من اللبنة الأخيرة التي يقدم الظالم على وضعها في خطته، والتي يظن أنها خاتمة مشروعه، فإذا بها سر هلاكه وانكسار شوكته، وهي معادلة كونية تتعاقب في البشرية بانتظام، ومن أمثلتها بإيجاز: ما يتحدث عنه القرآن الكريم والتاريخ عموما من قصص الصراع بين الحق والباطل، بين الظالم والمظلوم، بين الطغاة والمستضعفين، ففرعون قد أهلكه الله تعالى لما ظن أنه سيوجه الضربة النهائية لموسى وأتباعه، وصناديد قريش أهلكهم الله تعالى لما رأوا أن وقعة بدر فرصة مثالية وضربة نهائية للقضاء على محمد وأصحابه، وغيرهم كثير منذ بداية البشرية إلى اليوم.

ما شاهده الواقع السياسي المعاصر لكثير من الدول الإسلامية على رأسها دولة المغرب العزيز، وقضيته بالأمس مع المستخرب الفرنسي أشبه إلى حد بعيد جدا بقضية فلسطين اليوم مع اليهود المحتلين، فقد أقدمت فرنسا على آخر لبنة في مشروعها بالمغرب، فمدت يدها النجسة إلى بطل الأمة جلالة الملك المرحوم محمد الخامس، ظنا منها أنها الضربة الختامية والتوقيع النهائي والرسمي لفرنسة المغرب، وتحوله إلى مقاطعة فرنسية إلى الأبد! فإذا بها تصبح نقطة تحول أثمرت أعظم ذكرى في تاريخ المغرب المعاصر وهي: “ثورة الملك والشعب”، فكانت السبب في انتفاضة المقاومة وبالتالي استقلال المغرب، فأهلكت فرنسا نفسها بنفسها لما ظنت أنها قد أحكمت قبضتها الاستخرابية على المغرب {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}.

وهذا المثال الأخير في نظري هو نفس السيناريو الذي يحاك الآن في فلسطين بحول الله، فاليهود بإقدامهم على رجم غزة ظنا منهم أنها الشوكة الأخيرة للسيطرة على فلسطين وتدنيس مقدساتها ستكون بحول الله تعالى البقعة الطاهرة التي ستحرك الأمة نحو الاتحاد وإعادة ترتيب الأمور، لتشهد على انتفاضة شاملة تكون فيها بحول الله نهاية الصهاينة.

ونتفهم كثيرا موقف أولئك الواقعيين أكثر من اللازم، الذين يقولون بأن أي تفكير في المقاومة في ظل انعدام الأسباب المادية الضامنة للانتصار قد يجر الأمة إلى مزيد من المعاناة، وفيما ذكرته أعلاه جوابا شافيا لهم بحول الله. وخلاصة الأمر فيما يلي:

  1. أن جرح الأمة الذي يستمر في النزيف ويأبى أن يتوقف، أراه خيرا لا شرا، أرى فيه جرحا مؤلما يحرك في الأمة أمل الوحدة وتوحيد الصف من جديد.
  2. أن المراهنة في القضية الفلسطينية على المنتظم الدولي وحقوق الإنسان، ليس إلا مضيعة للوقت، ولا أمل يرجى منه.
  3. أن مقاومة الفلسطينيين بما يملكون من قوة الآن هو الحل الأمثل والصائب للدفاع عن أنفسهم وشرفهم وممتلكاتهم ومقدساتهم.
  4. أن من مسؤولية الأمة الإسلامية الواجب عليها (فرض عين أو فرض كفاية حسب المقام) أن تقدم يد العون لفلسطين بكل ما تملك من قوة وعلى رأس ذلك الدعم المالي، -وقد أحسن مفتي ليبيا بدعوته لصرف الزكاة لهم-، لأنها تدافع عن القدس (قضية عقدية إيمانية) لا عن بقعة أرضية عادية كأي بقعة من الأرض.

1xbet casino siteleri bahis siteleri