نصر أو استشهاد

الساعة السادسة والنصف صباحا، تلقي الشمس بأولى خيوطها الذهبية بحياء لتنبثق الحياة في الكائنات، فتستقبل الزهور بصدر رحب نسمات الدفء الصباحية، وتسترسل الطيور لحنها فيتسلل بحنو لآذان من اندس نومه في غياهب الأمس، أرض وادعة هادئة غافية حاضرة كملك لا يبلى، تلقي بشالها المصنوع من خضرة الروح الزيتونية على كتفيها، وجسدها المسدول على السهول والهضاب الممتدة على طول العين، هدوء يخيم في تلك اللحظات وأنت تتأمل انجلاء الليل الذي أسدل عباءته السوداء ليحل محله نور من الله ينير القلوب وأنت تجثو على ركبتيك متضرعا واهنا ذلولا للمبدع سبحانه، حتى تتغلغل إلى أذنيك صيحات وتكبيرات، صراخ من كل حدب وصوب، فتتخذ الحيرة من ملامحك مقاما متسائلا ما الذي يحدث بحق الله؟

تستلم هاتفك كعادة كل صباح لترى عنوانا عاجلا يتصدر الأنباء التافهة اليومية بخط أبيض عريض وخلفية حمراء: “الضربة الأولى من عملية طوفان الأقصى تجاوزت ٥ آلاف صاروخ استهدفت العدو” يليه خبر آخر: “المقاومة تسيطر فعليا على المستوطنات في قطاع غزة” ، تفرك عينيك مرات عديدة غير مصدق ما يحدث، ويبقى نفس الخبر لصيقا أعلى الشاشة يأبى النزوح عنها وكأنه يؤكد هو الآخر بأن الأمر حقيقة لا وهما، فتهلل أنت الآخر مكبرا “بلا شك هذا فتح الله الموعود، لقد تحررت فلسطين”.

حلم راودنا منذ أن وقعت أولى الوثائق مفادها خلق وطن لليهود داخل فلسطين والذي سيصبح في حقيقة الأمر مقبرة جماعية لهم، فلا هم ينعمون بنوم هنيء مخافة هجوم قد يشنه المظلوم، ولا هم يسيرون مهللين فرحين بما يسمونه دولتهم خشية أن تعترضهم قبضة تهوي بهم أرضا دون رحمة، كيف لا وقد استوطنوا خبثا أرضا غير أرضهم، واستولوا على منازل غير منازلهم وتجذروا ظانين أنهم بذلك قد حققوا النصر الأبدي، وهم وعد بلفور الذي صدقوه، والوهم إذا انتشر في العقل قتل صاحبه فالحقيقة التي ستفقأ أعين المنكرين أجمع هي عناد ورجولة وشهامة الفلسطينيين، أمهات وآباء عجائز وشياخ، شابات وشباب، لم يعرف الاستسلام إليهم سبيلا ولم يرضوا بالذل وصفا ولا بالخوف زميلا وإن اعتراهم رأيتهم يستعينوا بذكر الله فتطئن القلوب وتعزم على الاستشهاد.

فلذات كبد فقدت، شباب قضوا نحبهم، وعروس تستعد لليلة العمر فاختطفها الموت دون أن يستأذنها فهو خادم الحياة يستأذن هذه الأخيرة لكي يجمع ما تساقط من ثمارها. نظام خبيث متناقض لخصته مسرحية مخرجها أمريكي وكاتبها إنجليزي ومنتجها صهيوني بالتأكيد يضخ الأموال من كل جانب، غير أنه مؤخرا استقبلوا فرقة مخضرمة برهنت على صدق النية وجلب أهم المواهب اسمها الدول العربية، تستهين بأرواح شعب لا مهرب ولا مناص لهم سوى الله تعالى، فتارة يرغمون على لعب دور الشاب المقاوم فالهارب ثم الشهيد، وتارة أخرى تستقبله في جحيم الأسر لتذيقه جل أنواع العقاب لتهاونه في حفظ السيناريو,

ورغم ذلك، يألف المكان ويتخذ من الليل أنيسا ومن الأرض جليسا ومن الجدران آذانا صاغية وأحيانا أخرى حضنا يحيط به من كل جانب، فتتسلل طمأنينة مؤقتة بين ينابيع حضنه، قنبلة موقوتة قد تنفجر دون دوي صفارات الإنذار أو إعلان مسبق، ذاك الأنس ما يلبث حتى تقطعه موجة من الذكريات تتشكل أطيافا أمام كلتا عينيه، فيرى زوجته الدؤوب وهي تمسك بيد ابنته يمد يده ليمسك يدها فيتشبث بها عله يرتاح من كل تعب في كيانه، يقترب منها حتى تأتي غارة لتفتك بهن وينجلي خيالها مع ذرات الهواء، فيشهق شهقة ويجثو على ركبتيه لتتسلل دموع حارقة على خديه حتى تربت يد على كتفه يلتفت ليرى وجه أبيه الذي قد أهلكه شقاء وتعب الأيام ومقاومة الكيان المحتل، ترتسم على وجهه ابتسامة لتتشكل سحابة الطمأنينة من جديد فتلف روحه.

فجأة تتغير ملامحه لتستقر مكانها أخرى أكثر ألما، تشنجت أعضاء جسم الشاب ليستدير فيرى طعنة غدر قد استقرت في ظهر أبيه فيتخذ من الأرض سريرا ومن دمائه فراشا دافئا، هرب وهو يحبو للجهة الأخرى من الزنزانة، ليجد أخته تحتضن جثمانا وعلى وشك أن يتخذ الجنون من عقلها مكانا، يرفع عينيه ليجد أمه هائمة وقد اعترتها صدمة فلا تقوى على أن تنطق بكلمة سوى “ابني استشهد، حجي استشهد”.

معاناة شعب بأكمله تحت وطأة النظام الصهيوني الغاصب، فلا يدري ما ينتظره في المنعطف لكنه على يقين مطلق أن اليوم أو غدا دماؤه ستسيل مهرا لهذا الوطن وشوقا لصلاة بين ثنايا المسجد الأقصى أولى القبلتين، فهذا وعد الله الحق وقول رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم (تُقَاتِلُونَ اليَهُودَ، حَتَّى يَخْتَبِئ أَحَدُهُمْ وَرَاءَ الحَجَرِ، فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ)
حلم سيصبح حقيقة رغم كوابيس القصف والاغتيالات والغارات والظلم، والأسر، فالشعب الفلسطيني صامد حتى يزلزل أمن بني صهيون ويهوي بهم تحت الأنقاض التي بنوها بأنفسهم منذ أكثر من 70 سنة مضت. وهذا ما حققته المقاومة الفلسطينية بفضل التسللات الجوية والبحرية والبرية الأخيرة، لتشن الهجوم على فريستها بعد طول مراقبة وانتظار، وترسل بأكوام هائلة من الصواريخ لتذوق من نفس الكأس التي أرغمت المظلومين على التجرع منها، فاعتراهم الخوف وطاف عليهم طائف من صواريخ القسام فأصبحت كالصريم وتنادوا علهم يردون الصاع صاعين، لكن هيهات ثم هيهات فبنو صهيون في مواجهة شعب فلسطيني مدجج قلبه بذكر الله لا يقبل سوى بأمرين اثنين لا غير نصر أو استشهاد.

وفي مقعد صدق وحسرة أنا قائل، رحمة الله على الشهداء الفلسطينيين أينما ثقفهم القصف وصبر ذويهم وجعل النصر بين أيديهم حاضرا في أقرب الآجال فوالله قلوبنا معكم وما باليد حيلة سوى كلمات علها تحل محلها، ونختتم بقول الله تعالى : {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} [آل عمران: 130-143]

1xbet casino siteleri bahis siteleri