للأماكن ذاكرة قوية

هنا كنت أجلس بمفردي لساعات طويلة، بعدما تصيبني الخيبة، هنا أهرب من بطش الحزن ووطأته، أتجرع الصمت وأمضي نحو وجهتي المعتادة، أحبس أنفاسي وأنصت لدقات قلبي المتسارعة، عينان صغيرتان متقاربتان ومرهقتان من قلة النوم حتى اسودت حوافها، نظرات توحي بخيبة أمل، يدين جامدتين من هول الصدمة.

هنا اعتدت على الذهاب مرهقة ألتف حولي وأغفو، لأفصح عن خيباتي وعن كل ما يثقل كاهلي من صعقات، ومن وخز زاد جرحي نزيفا وألما، أرتجف كأوراق الأشجار المنتشرة على جانبي الطريق إلى أن أصل إلى الحديقة التي لا تبعد كثيرا عن مكان إقامتي بالحي الجامعي.

كانت الشمس آنذاك تسدل ستارها على الأفق فتعصر عيني وتثني أنظاري، لكني أواصل الطريق رغبة في المكوث بذلك الكرسي الحديدي الذي اتخذته فيما بعد أنيسا ومتكئا لي. كانت الرياح تحمل معها في كل الاتجاهات نكهات المطابخ النابعة من المنازل المجاورة.

الحديقة كالعادة تعج بالصغار؛ يلعبون، يصرخون، ويطوفون حولي، ضجيجهم المستمر كاد يخرق آذاني، يتهافتون هنا وهناك؛ يمرحون، يتحدثون في آن واحد، يتسابقون في جميع الاتجاهات فيصدم بعضهم البعض كالنمل المنهمك في عمله. كل تحركاتهم وضحكاتهم المجلجلة كانت كفيلة أن تبعث في روحي الأمل والهدوء، فتعطيني دفعة قوية بعدما خارت قواي، ثم ينقلب حزن يومي فرحا وكأنني قد قفزت عبر الزمن أو أنني قد لامست السماء بيدي. أما عن الكبار ففي الغالب كانوا يسكنون الزوايا المنسية بالحديقة، يرتمون فوق عشبها، يراقبون بصمت وعمق تحركات الصغار وأقدام المارة كأن لا شيء يلفتهم ولا شيء ينتظرهم. عيونهم مطوية للأسفل تعبيرا عن حنان لا ينقطع، ووجوههم شاحبة ومحفورة بتجاعيد عميقة تحمل بين طياتها قساوة تفاصيل الأيام والسنين.

مقالات مرتبطة

وسط هذا المشهد المتكرر من التهافت والضجيج، كنت أنا المتفرجة والمنصتة لأمواج أحزاني المتقلبة داخلي، أراقب الصغار والكبار باختلاف ألوانهم وأجناسهم، أستمع لصدى كلماتهم المتطايرة في الهواء تارة وأراقب تحركاتهم المسرعة تارة أخرى، بينما كانت الكراسي الممتلئة على آخرها بأسر الأطفال وذويهم يراقبون عن كثب أبناءهم.

تترامى أمامي الأفكار وتتزاحم الأسئلة بذهني في جملة واحدة: “لماذا كل هذا العناء؟” ما الحياة سوى مشوار نعيشه مرة واحدة بمره وحلوه، فعلينا جميعا أن نتجاوز المحن، فهنا كل شيء كان متاح: اللعب؛ الجلوس؛ البكاء؛ التأمل…هنا حيث أنت أنت، بل وقد تعيدك تفاصيل المكان إلى حنين الطفولة لتنقذك من ذكرى عابرة.     

تغرب الشمس في المساء ويرحل معها ذاك العبء الذي كاد يقتلني ويتبخر في الهواء، يختفي تماما بعدما كان يحل كدلو من الماء المثلج على بحر أحزاني، يتغير كل شيء حولي كنبات يؤتي ثماره فجأة. فأمسح دموعي الدافئة والصامتة، ألف شتاتي وأعيد إنبات بذرتي الأولى من الأمل والعزيمة تاركة ورائي غبار الذكريات.

الحديقة مكان جميل ذو لمسة طبيعية يشعرنا بالبساطة رغم صغر مساحته إلا أنه يحمل بين زواياه حكايا وقصص أيادي شارفت على السقوط، لكنها تمسكت في آخر المطاف بخضرة ورق شجر، ونسيم زهرة مائلة صغيرة. تحدث لنا الأماكن من الارتياح ما لا يكمن لأحد أن يحدثه، نتذكرها فيهزنا الحنين إليها.

1xbet casino siteleri bahis siteleri