الفراق بعضُ الموت!

يقال: فراق الأحباب سقام الألباب! ما مفهوم الوداع؟ وماذا يعنى فراق حبيب أو ترك عزيز أو فقد غال؟ أهو شكل من أشكال الموت أم عذاب الدنيا يغسل الله به ذنوبنا؟ كيف لقلوب تقوى على الفراق كأنها تفارق سجنا لا يعدو أن يكون سوى لحظة تسالم وتَمنٍّ للأفضل لمن هم مفارقوه إن كان من الأحياء أو دعاء له بالرحمة والمغفرة إن كان من الأموات، حتى أنك لا تجد لألم الفراق مكانا في حياتهم ولا هو بالأمر الجلل الذي يشغل بالهم؛ إلاّ أنه على الجانب الآخر نجد أناسا آخرين أقل ما يمكن أن يقال عنهم إنهم مساكين هذا الكون وبؤساؤه، قلوبهم هشةٌ هشاشة بيوت العصافير التي تغدو مع أول موجة خريف خرابا وركاما، تتفكك فروعه ثم يستحيل فراغا موحشا كحال أغصان الصداقات الفانية، أمثال هؤلاء يذوبون كقطعة جليد في دوامة الفراق فإن غادر الصديق، القريب، العزيز أو الحبيب من هنا تبخرت معه كياناتهم في الخواء من هناك.

من أسف، هذا الصنف المعذب في الأرض من الناس في كل لحظة فراق يضيق صدره ويختنق حلقه ويتصدع رأسه وإذا ما استمر الأمر على نفس المنوال فإنه يدنو يقينا نحو نهايته الحتمية وهي الموت كمدا، لذلك يتحول الأمر عند أغلبهم من مسألة وداع إلى قضية موت وحياة؛ عن نفسي أتحدث، نعم، الوداع بالنسبة لي شخصيا كغيري من المرضى العاطفيين إن صح التعبير بَعض من الموت أو كما يوصف بالموت الصغير.

قد تلفي من يتساءل ويتعجب: أفعلا هناك أناس بهذا الضعف والانكسار لا تقوى قلوبهم على الفراق؟ حتى أنَّ لحظة الوداع بالنسبة لهم سكرة من سكرات الموت يعيشونها بآلامها وشدائدها! أجيب، نعم! هناك بشر خُلقوا ليجدوا أنفسهم في هذا الواقع بين خيارين أحلامها مر: إما أن يعيشوا وحيدين منعزلين عن الناس كأنهم أطياف لا تُرى، وحتى إن شوهد ولا يلفتون أي انتباه أو أن يرتبطوا ارتباطا لصيقا عميقا متجذرا مع من توافقت روحهم بروحه كيفما كان جنسه أو نوعه، بشرا كان، حيوانا طائرا، سمكة أو جمادا؛ لأن لغة الارتباط لا تعقيد ولا قواعد فيها تتجاوز المنطق ولا تحتاج دروسا أو دورات، يكفي فقط أن يكون الآخر بجوارك؛ أي قريبا منك تبصره ويبصرك كُلّما وكيفما تريد ويريد.

من منظوري الشخصي، أرى أن كل المخلوقات على اختلاف أنواعها وأشكالها هي على غرار الإنسان لا تقوى على الفراق، فمن شاهد، على سبيل المثال، فيلم هاتشيكو الذي يروي القصة الحقيقية للكلب الشهير الذي بقي لسنوات ينتظر صاحبه الأستاذ حتى بعد موته، هذا الأستاذ الجامعي الذي كان عمله يبعد عن بيته مئات الأميال يطويها بالقطار ذهابا وإيابا كل يوم، إلى أن ظن الكلب في أحد المرات بعد توجه صاحبه إلى مكان عمله أنه سيعود كما اعتاد، إلاّ أن الأمر كان مختلفا آخر مرة، حين أصيب المدرس بسكتة قلبية أثناء مزاولة عمله فانتهى الحال بالكلب منذ ذلك اليوم وما تلاه من أيام وشهور وسنين، افترش خلالها الأرض والتحف السماء وتواترت على جسمه البالي السنون والفصول بسقيع رياحها وحر شمسها، إلى أن لقي حتفه بعد مرور خمس سنوات من الانتظار في المكان الذي تعوّد أن يلقى صاحبه فيه أمام محطة القطار شيوبيا بطوكيو، هذا المكان الذي بُنِيَ له فيه فيما بعد- تمثال رمزي تكريما له. هنا ستدرك المعنى الحقيقي للوفاء وستتأكد أيضا أن هناك عنصرا خفيا اسمه الارتباط القوي بالآخر وحبك له بمنطق لا يعرف جنسا ولا أي شكل من أشكال الاختلاف. وقِس على ذلك العديد من الأمثلة التي علينا أن نتوقف عندها ناهيك عن القصص الخالدات للحب الأفلاطوني الذي يجمع غالبا الرجل بالمرأة وما يخلفه دمار الفراق في نفوسهما.

إن ما يحضرني من القصص والتي أظنها الأكثر تعبيرا والأبلغ معنى، القصة الواقعية للصديقان اللذان مات أحدهما فحضر الآخر غسله وأثناء تغسيله لفت انتباه المغسّل -وهو لا يدرك أنهما صديقان- البكاء الهستيري للصديق الشاب عندما كان يساعده، فأراد مواساته قائلا: إنا لله وإنا إليه راجعون وإن الله أرحم به منا ومنك. وبنوع من الفضول أضاف المغسل سائلا: هل يقربك؟ هل المتوفي أخوك؟ فأجابه الشاب إنه ليس أخي، فوجئ المغسل قائلا فما لك وهذا البكاء؟ قال الشاب: بلى، بل أكثر وأعز من أخ هو صديق. صديق الطفولة كبرنا وكبرت العلاقة معنا، فما عدنا نفترق إلا دقائق، درسنا معا، عملنا معا، تزوجنا أختين، أنجبنا طفلين، سكنا في بيتين مجاورين، تشاركنا الأفراح والأحزان، يزيد الفرح باجتماعنا ويزول الحزن عند لقائنا، أكلنا وشربنا وسافرنا معا. صعب عليه إتمام الكلام، فأجهش باكيا وأتبع سائلا المغسل: هل هناك في الدنيا مثلنا؟ وهل هناك أقسى على النفس من هذا المصير؟ اختنقت العبارات داخل صدر المغسل متذكرا أخاه القريب منه جغرافيا، البعيد عنه بعد الكواكب عن بعضها البعض إنسانيا! أجاب: لا، لا يوجد مثلكما، مرددا في نفسه، سبحان الله، رثاء لحال الشاب. بقي الشاب على نفس الحال حتى أنهيا الغسل وظن المغسل أنه سيهلك في تلك اللحظة حين راح يقبل وجه صديقه ويبلله بدموعه قبل التوجه إلى المقبرة؛

عاد المغسل إلى المنزل وبه من الحزن ما به، وفي اليوم الثاني وبعد صلاة العصر حضر جنازة لشاب، أخذ نفس المغسل يتبصر الوجه الذي ليس بالغريب عنه، نظر إلى الأب الحزين، هذا الوجه أعرفه، فأجاب الأب بصوت حزين: يا شيخ، لقد كان بالأمس مع صديقه، بالأمس كان يناولك المقص والكفن، يقلب صديقه، يمسك بيده، بالأمس كان يبكي فراق صديقه. انقشع الحجاب، تذكره المغسل، تذكر بكاءه ونحيبه ثم ردد بصوت مرتفع: كيف مات؟ فأجاب الأب: عرضت زوجته عليه الطعام، فلم يقدر على تناوله قرر أن ينام، وعند صلاة العصر جاءت لتوقظه فوجدته…وهنا سكت الأب ومسح دمعاً انسكب على خديه رحمه الله لم يتحمل فراق صديقه فكان أن دفن بالقرب منه.

إن الفراق بالنسبة لهؤلاء عزيزي القارئ هو طريق سالك نحو الموت؛ إذ من الممكن أن تجد اثنان صارا واحدا وجزءا لا يتجزأ من بعضهما البعض، انصهرت واتحدت روحيهما فأصبحت حياة كل منهما مرتبطة بحياة الآخر حياة واحدة، شيئا مدمجا، وأي شكل من أشكال الوداع أو الفقدان هو بمثابة الموت المحتوم لهما.

1xbet casino siteleri bahis siteleri