هل الحب قبل الزوج أم الزواج.. وبعده يأتي الحب؟
تسكننا أفكار وقناعات لسنوات، تبلور فكرنا، تبني مذهبنا، تغلب طباعنا، تسود قناعتنا وتشكل فلسفتنا في الحياة، تظل كمفهوم ثابت ودائم، كمُسَلّمةٍ من المُسَلّمات، كنظرية غير قابلة للتفنيد، نتبناها كأنها كلام منزّل، نعيشه ونؤمن به فيصبح مصدر راحة وطمأنينة لنا، نمضي على هذا المنوال عمرا نغرد به دهرا إلى أن نكتشف أنه لا يتعدى أن يكون سوى وهم، لا صلة له بالحقيقة ولا هو ثابت -لا يتغير- ولا أي شيء. لذلك، فإن التساؤل والبحث عن الإجابة المناسبة يعتبر الخطوة الأهم في اكتشاف الحقيقة واكتساب المعرفة وبناء أفكار سليمة: فهل الحب إذاً قبل الزواج أم الزواج وبعدَهُ يأتي الحب!؟
هذا السؤال المطاطي الذي يحدد بشكل كبير هوية حياتنا المستقبلية، والإجابة عنه تشكل اللّبنات الأساسية لبناء أهم مشروع في الحياة، وتزيل اللثام عن ملامح العلاقة التي سنعيشها مع من اخترناه رفيق دربنا ومع من سيأتي مِنه مَنْ مِنْ صُلبنا، فإن جزّأنا السؤال الأبدي أعلاه إلى شطرين أو مفهومين هما “الزواج” و”الحب” واللذان كلاهما أو بالأحرى ثانيهما سال عليه الحبر بقدر مياه نهر “ذا فيين”، كلٌّ شرحه بطريقته وفسره على هواه، لَسَهُلَ علينا لا محالة الاستيعاب والفهم لِنختار بيقين الجواب الصحيح.
يمكننا القول إن الزواج هو ذاك العَقد الذي بموجبه يأتي العهد والوعد، تلتزم بفصوله وتعمل ببنوده وتبقى على الإخلاص مع من اخترت ما استطعت، مهما طال العمر لا تنزع حتى ينزع، يراه البعض صفقة ويراه البعض الآخر رباطا مقدسا وآخرون يقولون عنه مشروع حياة أو مؤسسة أصلها الأسرة التي تؤمّنها المودة والرحمة، ولِم لا المحبة! ومنهم مَنْ دافعه السنة النبوية والواجب الإنساني وأن الزواج نصف الدين والغاية الكبرى منه إعمار الأرض واستمرار الجنس البشري.
في النهاية، كيفما كانت الرؤية يبقى مُؤَدَّاه أن يلتزم الطرفان معا بأن يوفرا لبعضهما البعض كل أسباب السعادة والراحة وذلك على جميع المستويات سواء الشخصي أو المادي أو الروحي إلى غير ذلك؛ أما الحب فهو ذاك الشيء الذي يتكون من حرفين كما قال نزار قباني: “عجبي على حرفين قد سلبا وقاري حاء حريق وباء بِتُّ في ناري” فلا هو نظرية اكتشفت ولا هو مفهوم محدث أو وجد في معجم ولا هو شيء يكتسب أو ملكة نطورها، بل هو فطرة تولد معنا وصفة ركبت فينا؛ تجدك من دونه في فراغ مميت لا حدود ولا نهايات له، لا شيء قبله يحلو وكل الأشياء بعده تطيب فهو الأمر الذي لا تعرفه إلاّ حين تختبره ولا تدركه إلاّ حين تذوقه، ويقال: “من فاته الحب فاته حظ عظيم”، لذلك إذا اجتمع الحب مع الزواج تجاوز مفهوم التزاوج وصارت الغاية أسمى من التكاثر.
لعل قائلا يقول الحب ما هو إلا فسق! أجيب، بالإضافة إلى أنه أمر خلقه الله فينا وليس لنا أن نغالب فطرة الله، ولكن وجب علينا مغالبة وساوس الشيطان ونكران ما يفضي منه للمعصية والحرام، فليعلم القائل أنه ليس على قلب المرء سلطان، لأنه المكان الوحيد الذي لا يحكمه حتى صاحبه وهو كما قالت الأعراب الضعف الوحيد الذي لا يذهب بالمروءة، فقد تكون في حالك تسلك مسارك وتعيش حياتك حتى يفاجئك، يعترض طريقك ويشتت فكرك ويقلب موازين عيشك ويصبح بوصلتك، وفي غيابه، تتيه في غياهب هذه الأرض، بدايته فرح وسعادة وآخره أحيانا ألم وشقاء، لكن مع كل هذا وذاك لا تجد لحياتك معنى من دونه يصير الحاجة الماسة والوقود الذي به تتزود لتستمر حياتك. وفي اعتزاله، شعلك كلها تنطفئ، تسأم من كل شيء، تنهشك الوحدة وتنفطر روحك ويحترق داخلك؛ فالحب باختزال هو التناقض بعينه ولكنه يظل كُنه الكون. فهل له الأولوية والسبق أم لا إشكال أن يأتي فيما بعد؟
أولا، يجب أن نتفق على أن المحبة لا تنعقد بغير المخالطة والصحبة وقد تُدرك من الوهلة الأولى وقد لا تتأتى إلاّ بعد العشرة أو بفعل التراكم كُلٌّ حسب طبيعته، فكيف إذاً للمرأة على وجه التحديد في مجتمعنا الذي يحكمه العرف والدّين أن تجد حبا في غير نطاقهِ الشرعي؟
هناك -للذين هم أكثر حرصا- الخطبة التي تتيح التعرف الشرعي مع ضوابطه، وهناك أيضا ما يفرضه المسار الدراسي المختلط أو الزمالة في العمل، وهذا عند شطرٍ مهم من الناس كافٍ جداً، فإن وقع في نفس المرأة شيء من الرجل فهذه بوادر الحب ومعالم الطريق التي تفضي إليه، وهي الشرارة التي تؤكد استقواءه كشعور فيما بعد ونشأته بثبات ونبات مستقبلاً. وعليه، مع السؤال والبحث والتحري قد تأتي مرحلة اتخاذ قرار الارتباط عند الفتاة، وإلاّ فإنها تتراجع عنه في حال لم يستتبّ الرضا والانشراح المسبق أو أن تنصرف إلى غيره إذا كانت القائمة طويلة، وهكذا إلى أن يُحدِث لها الله أمرا كان مفعولا.
أمّا الرجل فأمره أبسط نوعا ما، فقد يقع في الحب قبل الزواج دون مقدمات لأن معايير انتقائه وأسباب انجذابه محدودة نسبياً، وتنحصر عند الأغلبية في الشكل فقط، وللمرأة في هذا الباب تحديدا سلطة لا تقاوم على الرجل نتيجة ما وهبها الله من أسباب سِحر الجمال وفتنته، وبِولعِ الشكل فقط قد تنطلق مشاعر الرجل وتُحلّق جوارحه وتسيح أحاسيسه ليذوب ذوبانا ويهيم هُياما مما أبصر وشاهد، حتى أنك قد تجد من حوله يتساءلون: أسحرٌ هذا أصابه، أم جنون أم هو مرض نفسي! والمساكين لا يَعُون أنها علّةُ الحب التي لا دواء لها إلاّ الزمن. وهذا بكل تأكيد ما لا ينطبق على المرأة التي تحتاج كما سبق وذكرت إلى الكثير من التفكير والتحري والتريث، وفوق ذلك استفتاء قلبها وتتبع حاستها السادسة التي تتميز بها عن الجنس الآخر والتي غالبا لا تخطئ، لترشدها بذلك إلى حسن الاختيار، فإن تحقق المنى مع توافق الفكر إلى جانب الباءة وقوة الشخصية وإبداء تحمل المسؤولية من جانب الرجل وكذا رضاها عن شكله لأهميته في العبور إلى قلبها (لما لها في آخر المطاف ما للرجل على السواء)، عقدت العزم وأقدمت دون تردد وما همها دونه شيء.
لذلك، تجد المرأة في مجتمعنا هي الأسرع في التعلق ثم الوقوع في الحب بعد الزواج والاستمرارية في العطاء العاطفي دون انقطاع، وذلك لسببين؛ أولهما تركيبتها الفسيولوجية كأنثى وثانيا المجهود الهائل وبذل الوسع والطاقة لأخذ قرار حاسم ومصيري في حياتها كقرار الارتباط، حتى إذا ما وجدت فيه بعد حين ما يسلب عقلها ويملك كفايةً فؤادها صبرت واحتسبت ولا تنظر إلى غيره، وقد يكفي أغلبهن من أزواجهن بِضعُ الاهتمام والاحترام وأن يعاملها بالحسنى ويخلص لها. عكس الرجل في هذه النقطة الذي يُعتبر مخلوقا ملولا سريع الضجر، يُعرف بحب التغيير وتعدد التجارب ولا يحوي قلبه شيئا سوى القبر لاتساعه للجميع كما هو شائع وخصوصا للجنس اللطيف! إلاّ أنه كي لا نحجب أو نشوه الحقيقة كاملة لا يمكننا التعميم، فلكل قاعدة استثناءات كما يقال.
ويجدر بالذكر أيضا أن في عصرنا الحالي هناك أنواع عديدة من الزيجات، منها ما يقتصر على نطاق العائلة ولا يتعداه، ومنها ما يُدعى اقتران الصالونات أو الزواج عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، وأيضا هناك طرق أخرى كاللجوء إلى وكالات متخصصة، الرقمية منها والواقعية، والتي يتأرجح فيها الحب والزواج بين النجاح والفشل.
هذه الأنواع، تتفاوت فيما بينها احتمالية تحقق المحبة قبل وبعد الزواج، فمنها كغيرها الذي يتسنى من أول لقاء ومنها مع التعارف وتوالي المحادثات الهاتفية أو اللقاءات، ومنها ما لا يقع إلاّ بعد جدالات متكررة وخصومات مطولة أو فراق. وهناك نوع آخر أراح نفسه ولم يتبعها هواها، فوضع صوب عينه مواصفات محددة تكفيه وترقى لتطلعاته، منصرفا بذلك عن الحب كمعيار أساسي في الارتباط، وقد يكون مقصده في الأخير (كحال الكثيرين) طرد شبح العنوسة وأن لاّ يدر وحيدا حتى أرذل العمر.
والجواب الجامع والملخِّص في نظري المتواضع هو أن ضمان الشيء أفضل من العيش في وهم السراب أو المراهنة على احتمال قد يتحقق وقد لا يتحقق، ويبقى إدراكه أمراً في علم الغيب، وأعني بذلك أن الحري والأصح بكل مُقبل على الزواج، هو السعي للفوز بالأمرين معا وقبلهما: ابتهاج وسكونُ النفس واستشعار بوادر الحب على أقل تقدير لكي تصير المغانم بعدها أكثر من المغارم، فالزواج كما هو معلوم لا يخلو من الآفات والمعضلات، وأرى أن الحب هو ذاك المرهم الذي يعالج جروحه العميقة ويشدُ شداً تجاعيده حين يُبرزها غدر الزمان، ويطبطب على كتفه حين تقسو عليه ظروف الحياة، ويجبر كسره الذي قد تخلفه التصادمات، ويفيء إليه بظله حين تلحفه حرارة النِّزاعات، ويرمم ويبني أجزاءه التي قد تهدمها المشاكل والمسؤوليات، وهو الواحة التي تروي ظمأه حين يصيبه الجفاف والجفاء، وهو النخلة التي يتزود بثمرها الحلو ليتجاوز العقبات والتحديات، وبالحب أيضا يكون العفو والصفح عن الأخطاء، ويبقى هو الدافع الأكبر لنسيان الزّلاّت بين الأزواج والزوجات.
ختاما، بإمكان الواحد أن يعيش ويرتبط دون حب، لكن الأكيد أن الحياة معه ستكون أفضل. وفي هذا الصدد، تحضرني مقولة جلال الدين الرومي: “لا تكن بلا حب كي لا تشعر بأنك ميت، مت في الحب وابق حيا للأبد” وقد يتحقق هذا في الزوج -قبل وبعد الزواج معاً- لكن على شرط التناسب في النفوس والطبائع قبل تناسب الأجسام والمستويات والأعمار والثقافات؛ فابحث تجد واسع تبلغ ولكل مجتهد نصيب، ولا ننسى تحسين النوايا فإن بها مالا يُبلغُ بالعمل كما قال الفاروق.