وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا

تخيل أن تكون جالسا في بيتك، مستلقيا على سريرك، تشاهد فيلما جميلا وتتناول طعاما طلبتَه من الخارج، ثم فجأة تسمع أصواتا وصراخا في الشارع، تحمل جسدك وتطل من النافذة فتجد حشدا من الناس أمام منزلك رافعين رؤوسهم باتجاه نافذة مطبخك الذي تنبعث منه سحب كثيفة من الدخان، وبينما أنت تحاول فهم ما يحدث وتتحرى سبب الحريق والهرب تشعر بمغص شديد في بطنك فيغمى عليك بسبب أن الأكل كان فاسدا.
إن حاولت شرح ما حدث لأي شخص آخر لاتهمك باللامبالاة والانشغال بالتلفزيون والأكل الشره، لكن الحقيقة وحدك من يعرفها، ما حدث كان بسبب تعطل حاستي الشم والتذوق لديك. فقدان حاستي الشم والتذوق هو عرض خفيف من أعراض الإصابة بكورونا بالنسبة لبعض المحظوظين وعرض خطير بالنسبة للبؤساء أمثالي الذي رافقهم لأكثر من عام أو عامين حتى.
قبل 9 أشهر من اليوم كنت مثلكم، إذا سُئلت عن نعم الله علي لكانت نعمتا الشم والتذوق في آخر القائمة وزوالهما كان أمرا مستحيلا تماما، إلى أن حطت كورونا رحالها في البيت، حمى، سعال، زكام، إعياء ثم انعدام تام لحاستي الشم والتذوق، يومين، أسبوع، شهر إلى أن مرت 9 أشهر.
أكثر من 9 أشهر وأنا أستيقظ كل صباح على أمل أن أحضر فطوري اليومي بينما تداعب أنفي رائحة القهوة والخبز المحمص وأرتشف فنجاني فأستشعر مرارة البن في فمي، لكن شيئا من هذا لا يحدث، فالحقيقة أن تحضير الوجبات اليومية وتناولها بات مجرد وظيفة مملة أقوم بها لسد الجوع فقط، فرائحة البن مثلها مثل رائحة البنزين ورائحة الخبز المحمص لا تُحتمل، والبيض رائحته كريهة جدا، أما اللحم والدجاج فرائحتهما وطعمهما سيء للغاية، وبالتالي فإن متعة الأكل انعدمت تماما لدي إلى أن اكتشفت أنني مصابة بالهلوسة الشمية، نعم، أنا أشم روائح لا وجود لها في الحقيقة وكل الأشياء من حولي بات لها طعم ورائحة مختلفين تماما بالإضافة إلى أن اشياء كثيرة لا تتشابه في شيء لكنها تحمل نفس الرائحة كالبيض والمجاري مثلا، والبن والبنزين والكزبرة والفلفل والبصل والثوم.
ولأنني لا أملك إلا أن أصبر على ابتلاء الله عودت نفسي على الحياة الجديدة بطعمها الجديد دون أن أتخلى على أملي في التعثر برائحة ما حقيقية بينما أمارس حياتي اليومية.
أستيقظ كل صباح وآخذ نفسا عميقا أحاول فيه استنشاق أي رائحة عابرة في المكان لكن دون جدوى فيزيد شعور الاكتئاب لدي، فالرائحة والعاطفة ترتبطان ارتباطا وثيقا ببعضهما البعض، أن تتنقل بين الأماكن وتعانق أحبتك دون أن تعلق بذاكرتك رائحة عطرهم شعور سيء جدا والأسوء من كل هذا ألا تستطيع وصف وتفسير ما تشعر به للآخرين، فتصبح غريبا عنهم وعن بيئتك، كيف لا وقد أصبحت أنت نفسك غريبا عن نفسك، فبالتالي لن تتلقى كل الدعم الذي تحتاجه إذ أنت بنفسك غير قادر على أن تدعمك.
أن تتحول إلى مجرد آلة تحضر الطعام لتسد جوعا اعتصر بطنك، أن يكون الطعام بكل أنواعه متشابها لديك، ألا تستطيع التمييز بين الدجاج واللحم، أن يكون طعم الشكولاتة يشبه طعم خبز محترق، ان لا تستطيع تمييز سوى الطعم الحلو والمالح والمر والحار جدا فقط.
أن ترش عطرا على ثيابك حتى يشمها غيرك، وتحل وترتحل دون أن تحمل ذكريات في جعبتك، وأن يكون حديث الناس عن طعم البرغر اللذيذ ورائحة العطر الذي تضعه أمرا محزنا بالنسبة لك، أن تحاول شرح الموقف لأصدقائك الذين وضعوا أيديهم على أنفهم فجأة بينما أنت تتنفس بشكل طبيعي لأنك لم تشعر بشيء، أمر محرج.
إن نعم الله لا تعد ولا تحصى، بعضها يستدعي التدبر كي نستشعر وجودها وبعضها واضحة جدا لكنني ألفناها فبات وجودها بديهيا وزوالها مستحيلا فنسينا أن نحمد الله عليها حمدا كثيرا، ورحمة الله بنا يبتلينا بفقدانها حتى نتدبر ونحمده كل الحمد على ما ظهر من نعمه وما بطن.
1xbet casino siteleri bahis siteleri