أين إختفى الغناء الراقي

أظهرت دراسة بريطانية حديثة أن الموسيقى مؤشر قوي لتحديد شخصية الشخص و أبعادها، هذه الدراسة أكدت ما كنت أشعر و أؤمن به، إنه لمن العيب حقا أن نعيش بين أناس يجهلون قيمة الطرب و الموسيقى الراقية و النقية ،و التي ليست يالضرورة أن تكون أغان قديمة و كلاسيكية ،فهناك أغان جديدة تستحق كل الاحترام .
لكنني وسط هذا الكم الهائل من الأغاني الهابطة و الموسيقى الصخبة و ضوضاء الحياة ، أمام كل هذا التلوث السمعي الذي تتعرض له آذاننا كل يوم لا يسعني إلا أن أقول الحمد لله على نعمة أم كلثوم و فيروز، فلولاهما لما استطعتُ الثبات .
كل ما كنت أعرفه عن أم كلثوم أنها مغنية مملة، تقف بالساعات على المسرح و هي حاملة في يدها منديلا، و كل ما كنت أعرفه عن فيروز أن لها أغنية عن القدس كنا نرددها في حفلاتنا المدرسية.





تعرفت على فيروز في وقت متأخر، قبل ست سنوات تقريبا بعد أن اكتشفت أنني أملك موهبة الكتابة، فوجدت أن فيروز خير جليس و ونيس ، و اكتشفت كذلك أنها خير من استأمنها على اسراري و على وجهي و شعري المنكوش و رائحة فمي في الصباح، هي فقط من بوسعها أن تتحمل تعكر مزاجي و تغيره ،هي من تتولى تدبير أمور حياتي و ترتيبها و حل مشاكلي، إن صوتها يجعل كل شيء سهلا و ممكنا و كل المشاكل تبدو في رمشة عين محلولة.
أخفيتُ علاقتي بها لمدة طويلة بعد أن تعرضنا نحن الكتاب الجدد إلى هجوم شرس ،و قالوا أننا متصنعون وأننا ندَّعي حبنا للقهوة و عشقنا لصوت فيروز حتى نبدو مثقفين ، فلم أكن أعرف كيف أدافع عن نفسي و عن علاقتي بها ، فأصبحتُ أسمعها في الخفاء أو حين أختلي بنفسي لأمارس الكتابة، فأنا أشعر و كأنها ملهمتي ، إنها كذلك بالفعل .

عندما يُـزَج بي داخل نقاش حول الأذواق الموسيقية ، أجد نفسي أدافع بشراسة عن فيروز ذات الصوت الرخيم و الملائكي، الصوت الذي هبط من السماء حتى ينشر السلام ، الصوت القادر على بعث في داخل كل متذوق للفن و الموسيقى الشعور بالسكينة، و كأنه جالس على الشاطئ و كل أصوات الطبيعة من حوله تغرد و تشدو، إنها فيروز ،الظاهرة الفنية التي بصوتها غنت للحب و للسلام رتلت و صلَّت و أنشدت ، إنه الصوت الوحيد الذي يمكن القول عنه انه صوت بذراعين، يمتدان للمستمع و يعانقانه و يغدقان عليه بالحب و الأمان، صوتها شفاء لكل الأمراض و لعل أولها الناس.





اقترن صوت فيروز بالصباح و بفصل الخريف و الشتاء و أجواء البرد، أقسم أننا لم نتفق على هذا ، إنه شعور يمكن أن نقول عنه شعورا فطريا، فحالما تسمع لفيروز ستشعر بطاقة غريبة تتسلل إليك، جرعة نشاط و حيوية تتسلل إلى أوردتك الدموية، و رغبة كبيرة في أن تعيش يومك كما ينبغي .
أما أم كلثوم فكان صوتها حكرا على عالم الكبار فقط ، و كلما حاولت الاقتراب منها و الاستماع إلى أغانيها يصيبني الخوف، فصفة العاشق تلتصق دائما بالمستمع لأغانيها ،إلى أن سمعتُ ذات مرة في برنامج إذاعي أن التقلبات العمرية و التجارب الشخصية لها دور كبير في جعل الشخص يتعرف على أم كلثوم و يخصص وقتا و لو قصيرا لسماعها ، أنا لا أذكر متى بدأت و متى دخلتُ هذه المرحلة، كل ما أذكره أو أعرفه أنني مولعة بكل ما له علاقة بأم كلثوم، قبل مدة كنت إذا ما صادفت حفلا موسيقيا لها في إحدى القنوات و كنتَ أشاهد الجمهور و هو يترنح و ينتشي بموسيقى العازفين أشعر بالحيرة و ترتسم حولي علامات تعجب و استفهام كثيرة لكنني بعد أن انضممت إلى نادي عشاق أم كلثوم أستطيع أن أقول أنه أمر تلقائي و عفوي، لأنه من غير الممكن أن تسمع لصوت أم كلثوم و أغانيها دون أن تحرك رأسك يمنة و يسرة ، إنه الطرب الذي شارك في صنعه عمالقة الفن و الموسيقى و الشعر آنذاك.

علاقتي بأم كلثوم صاحبة الصوت الذي حير العالم و أصاب صغاره بالضجر و الملل ظلت سرية لمدة طويلة كعلاقتي بفيروز، فقد أصبح حبي لها مصدر إزعاج و قلق لمن حولي ، و بدأوا ينعتونني بالفتاة العجوز ، التي تحمل فوق عمرها عمرا آخرا ،الفتاة غير القادرة على مواكبة الحياة و تطوراتها و مسايرة التجدد الموسيقي و هذا ما أثبتته الدراسة الآنفة ذكرها ،ان محبي الموسيقى الكلاسيكية هم أشخاص يصيبون الناس بالملل .
إلى أن قررت الاعلان عن حبي لها و الدفاع عنها كل ما دعت الضرورة لذلك
إنها الظاهرة الفنية التي لن تتكرر أبدا مهما حاولوا تقليدها، فهي النسخة الوحيدة الموجودة على الأرض، رسالتها كانت واضحة في كل اختياراتها و لقد نجحت في إيصال الرسالة ، غنَّت للحب و عذاب الحب، و عن اللقاء و الانتظار و عن السهد و الحرمان إنها الوحيدة إلى جانب فيروز من تجعلني أشعر بماهية الحب و أعترف بوجوده و أؤمن بقدرته السحرية على تحويلنا.
أم كلثوم . . العمود الذي يرتكز عليه العالم الفني بكل ما فيه، و لولا وجودها لأصيب بالانهيار .
و لو كان الأمر بيدي لاخترت العودة إلى حقبة الفن الجميل و اشتري تذكرة صالحة للعمر بأكمله، و أجلس في الصف الأمامي في المسرح لساعات طويلة أنتظر دخولها و أصفق و أصفّر و اتأمل طلتها و ملامحها و تعابير وجهها.
علاقتي بفيروز و أم كلثوم علاقة موصولة إلى الأبد ، إن صوتهما هو الشيء الوحيد الذي يستحق أن أرفع صوتي لأجل الدفاع عنه ،على الرغم من أن الأذواق تختلف و أن للناس فيما يعشقون مذاهب إلا أنني لم أستطع بعد فهم و إدراك أنه على هذه الأرض هنالك من لا يحب سماع فيروز و أم كلثوم بل أكاد أومن بأن كل من لا يحب إحداهما هو عبء على الأرض و على المجتمع .




1xbet casino siteleri bahis siteleri