فلسفة الحكي

بعد أن تفتح الدفة الأولى من الكتاب، يبسط لك السجاد الأحمر، ويضيء المكان حولك بكل الألوان، وبعد انتهاء مرحلة الهدوء، يسحب البساط من تحت قدميك، ويحاصرك الظلام. هكذا تكون البداية الفعلية للرواية، صراع بين الشخصيات، صراع بين الأزمنة (الماضي، الحاضر، المستقبل) ثم صراع بين الأحداث.

في عالم السرد، لا مجال للحديث عن التشويق والإثارة دون ظهور مصطلحات من قبيل الصراع والعراك والنزاع والعقدة، كلها مفاهيم تعتبر الهيكل الذي تتأسس عليه الرواية والقصة والمسرحية، بل حتى الأشكال النثرية القديمة، كالحكاية العجائبية.. للصراع دور مهم في كل جنس أدبي، يبرز أساسا في التحول من الماضي إلى الحاضر ثم المستقبل، عبر البحث عن تغيير واقع ساد في زمن مضى وفي وقتنا الراهن، ولا ريب في ذلك، فالواقع ينبئنا بصحة هذه الأمور، سعي الإنسان في الحياة دوما هو البحث عن الاستقرار، الطمأنينة، العيش الكريم.

تلك أهداف قد يضحي من أجلها بسنوات من عمره ليضمنها في المستقبل، هنا تحضر الأحداث التي مضت لتفرض نفسها في الوقت الراهن، لتقول أنه لا مجال للتغيير، لكن المستقبل يأتي بمستجدات يزاحم من خلالها ذلك الماضي الذي يريد أن يفرض نفسه، هكذا تتعقد الأمور، ويتولد النزاع بين الأزمنة.

أما النوع الثاني فهو الصراع القائم بين الشخصيات، فمن المؤكد أنه في الحكاية جانب يدافع عن الخير وآخر عن الشر، بمعنى هناك المساعد والمعارض والهدف المرجو، وبالتالي حين تتقدم الشخصية الرئيسية لتنقض على هدفها، يحاول الطرف المعارض جاهدا كبح جهودها وجهود الأطراف المساعدة، وهكذا تندلع الحرب.

لكن صراع الأحداث هو صراع من نوع آخر، فالأحداث كالأشواك الملقاة في الطريق، وكالسجاد الأحمر أحيانا، تبدأ بالهدوء والسكينة، وتنتقل إلى إعلان قطيعة مع بعضها البعض، فنرى حدثا يقودنا إلى النهاية، وحدثا يعود بنا إلى الوراء، إلى زمن الهدوء، إلى زمن اللانزاع، إنه التسلسل العشوائي الذي يحضر في بعض الحكايات، التي تبنى أساسا على التقدم ثم العودة للوراء، ثم التذكر، وقد نقترب للنهاية أحيانا ثم نعود، وقد ينتهي بنا الأمر في نهاية مفتوحة، تجعلنا نغرق في بحر التأويلات، وكأن القارئ يتمنى في اللحظة تلك، اللقاء بالكاتب ليفصح له عن ما آلت إليه أحداث القصة.

مقالات مرتبطة

هنا يبرز دور المتلقي بشكل فعال، فهو لا يكتفي بالقراءة فقط، بل يقوم بعملية التأويل والبحث عن النواقص وإتمامها بفرضيات أو اجتهادات شخصية، فيصبح القارئ كاتبا، منتجا لنص آخر، نص يعينه على بناء منطق واضح لعمل أدبي لم يترسخ في ذهنه بشكل كلي.

غالبا ما نمر مرور الكرام على بعض الأمور التي ساهمت بشكل فعال في الربط بين الأحداث، لكونها شخصيات غير حقيقية أو ما نصطلح عليه بالقوى الفاعلة غير الآدمية، فلا يهمنا من الشخصيات سوى ما برز منها، كالبطل ومحبوبته أو أصدقائه، لكن لا نلتفت إلى المنزل القديم الذي ورثه عن أجداده والذي كان سببا في إفلاسه بعدما قام ببيعه، أو الوثائق المدفونة تحت جدران البيت التي جعلته يستعيد كل ممتلكاته، ما نلتفت إليه ونتشوق إلى معرفته هو الأحداث والعلاقات والقوى الآدمية.

إن أهم عنصر في كل عمل أدبي هو المتلقي، إذا أقبل عليه ارتفع شأنه، وإذا تولى سقطت أسهمه في بورصة الأدب، لذلك يبدع الكاتب للقارئ الباحث عن معاني الجمال والروعة والحبكة الجيدة.

إذن ففلسفة الحكي هي بمثابة إعلان إشهاري يجذب المتلقي ويقنعه بالاستغراق في هذا العمل، إنها لحظة الغواية التي تولد لديه النشوة لاقتناص ما يختبئ بين ثنايا الكتاب.

ختاما، الأدب حقل خصب، والفلاحون هم المبدعون الحريصون على نمو أشجارهم لتؤتي أكلها، وتزهر بثمارها في كافة أرجاء الحقل لتجذب الناظر إليها. فكلما اهتم الفلاح بشجرته إلا وجادت وأفحمت واجتمع الجمع حولها.

1xbet casino siteleri bahis siteleri