داء الكتابة

هجرت الكتابة كأن النشوز حال بين فراش مخيلتنا، ولاذ ذاك الفتيل ليحرق نفسه بعيدا عن الأعين، وتوارى خلف ستار الهجر ينسج أطلالا ويتحسر على ما بيننا. عدت لرسم الحرف كأني لم أهجره قط، تناثرت الأحرف مغازلة أناملي تتودد كزوجة جندي عائد من الجبهة. أعدت لي متكئا وبنا بفنجان من أمل، واستلقت تتلقى ما ينثر.

للأحرف لمسات تبلغ بها عنان اليقين ومنتهى الحيرة حين السؤال، تنثر كإكليل فوق تابوت المراسيم، هي عدوى تثير بك ما تثير، لن تعلم الداء حتى يتراص الحرف الأخير، تصطف حينا كطوابير من النساء لتملأ من الجب قدرا أو اثنين، وتصطف أحايين كثيرة كسراب لا تعرف له مقيما.

مصاب بداء الكتابة والأحرف إبر وخزها يهيج وجنتي الأفكار بداخلي، يخرج من أضلعي مداد أحيك به الكلمات في سبيلك، قد ننشز والود مستتر بيننا، ميثاقنا قرطاسه نصفه ذهب وباقيه عاج. بيننا ألم وود، بيننا ما لا يخطر على قلب عاشق، الملاذ حين يضيق الأفق والفسحة حين الشدة.

تلاحقني لعنة الكتابة، يستفزني الصمت، كل شيء يثير أفكاري كأني أراه للمرة الأولى. أأكتب ما سُّرب إلي عساه ينجلي؟ أخفي الكلمات بغمدي مشحوذة تحسبا لكل طارئ…أنكز بها المغير إن بدا، وأحشو بها قرطاسي للمنتهى. لعل ستائر السكينة زالت وتجلى ما أخفى…سرداب من الأفكار المعتقة، سَرية مرابطة، لربما هي إماء تنتظر الكفارة…تبادلنا السكون وصرخنا بخطوط ملتوية مشكلين جملا بلا معنى.

الألم يعتصر قلمي، مخاض عسير … يلتوي ، يتعرق كأن به مس ، يقف على الأطلال، يوقد نار الأمس، ويشطب على من تخلف من الأفكار. يزرع مداده كمن نثر النوى، قرطاسه بور صام دهرا وسقاه الندى…حاك الخيال، رثى المجهول، أتى بلا موعد. ماتت فكرة، أعد وضيمة، ثم أعد لحده…

مقالات مرتبطة

الساعة تشير للسادسة والقليل من الحنق، لا زالت العتمة تلقي بأسدالها، لا أحد هنا سوى العائدين من المساجد، المواخير والتائهين، ملتحفي العرى، والمتسولين زبد الحياة، لا زالت الشمس تسترق النظر، لم تقرر بعد موعد الخروج.

في الطريق أقذف الحصى وأميطه، أفشي السلام على الظلال وألعن اللصوص وسبب مفارقتي مضجعي. يوم بارد كالعادة، كتنين منقرض أنفث الهواء لتسلية وحشة الطريق، أتوسط الشارع تجنبا للمتسولين المنثورين على الأرصفة بعدد الحصى، المعطوبين والرضع، وما لفظ الدهر من العجائز، كلهم هنا.

لم أستسغ بعد سببا يجعل إحداهن تتدرع برضيع لم يبلغ بعد حوله الأول، تستجدي به عطف المارة، يتلقى صقيع الفقر وتقلب الفصول بصدر عار بغير حول سوى الصراخ كوسيلة للاحتجاج دون مجيب. تتعمد إظهار وجهه كي لا نعتقد أنه مجرد دمية، حتى علامات الأمومة غير بادية على محياها، أراها تارة كعلاقة الأجير بمشغله، وأحيانا أخرى كعلاقة رب الحرفة بأداته، أو لربما هو سبب قوتها، لكنه قوت مقيت.

أخاله يقول: “كنت أعتقد أني نبتة زرعت في أرض مباركة، تسقى كل حين كي تنبث وتعقد وتجود ثمارا، لكن أيقنت بعد شح الغمام أني بأرض بور لا زرع يصلح ولا تربة تحتوي الأحلام، كنت ساذج حد التعاسة، موهن ومستغرق في السراب.”

بعد أمد تثاءبت شمس الرباط تدفئ أمواتها بمقابر الشهداء، تلقي التحايا على المفقودين بين ثنايا أسوارها، تتغزل بالحالمين والموردين ومن تصوف لإلهه والقانت المرابط، بين الأسوار قصص حيكت كالسر وحكم تلفظ بين نواجد الذاكرين. ماذا لو كنا مجرد دمى يتحكم فيها أحدهم على سبيل الفسحة، يوقد لنا شمعة آخر النفق وينفث فيها كلما دنونا، يرانا نسقط، نصرخ للنجدة وهو يبتسم بهستيرية كأننا دمى فقدت البوصلة؟ ماذا لو أننا مجرد سراب، ظلال ولربما وهم يتخيله منتشٍ بمخدر زرعه فلاح بمال حرام، ماذا لو أن كل شيء مجرد فكرة ثملة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri